“الأشجار تموت واقفة” مأثرة الحياة شرط انتصارها.. أحمد علي هلال
قدّم هشام كفارنة خبرة جمالية لاتقتصر على الاحتفال بالقيم بل وتحرير الوعي بها

|| Midline-news || – الوسط …
.
هذا العنوان الذي ينفتح على ثراء الدلالة ليتلقفه المسرحيون والدراميون العرب، اعادةً لإنتاجه وفق متخيلهم الثر وشواغلهم الجادة، لطالما مثل انعطافاً في المخيلة المسرحية العالمية أخذنا إلى العديد من المحاولات لترجمة رائعة أليخاندرو كاسونا وأمثولته الإنسانية بامتياز والعابرة غير فضاء بعينه بثقافتها الإنسانية والوجودية، عبوراً ممكناً يحاكي القيم ومنظومتها وأنساقها عبر ما هو مشترك في الوعي الجمعي الإنساني.
وفي سياق احتفالية اليوم العالمي للمسرح، جاء عرض «الأشجار تموت واقفة» للكاتب والمعلم الإسباني أليخاندرو كاسونا الذي عُرضت مسرحيته للمرة الأولى في مسرح أتينيو ببوينس أيرس، إعلاءً لقيم السعادة التماسك والانتصار للأخلاق.
وهذه المرة بتوقيع المخرج الفنان الكبير هشام الكفارنة، عبر رؤية ومحايثة ودفعاً لارتقاء التلقي وجماليته وأسئلته المفتوحة، وعبر تأسيس سينوغرافي وعناية فائقة بالميزنسين «التشكيل الحركي» والمحكم ببساطته وعمقه.
انفتحت مقولات العرض المسرحي أكثر لنذهب من النص إلى العرض، متأملين مأثرة -كاسونا- في الفضاء المسرحي السوري وقواعد العرض المسرحي الأكثر انسجاماً مع حقيقة النص وشخوصه بأداءاتهم الباهرة، لا سيما أداء الفنانة الكبيرة أمانة والي.. ومعها قصي قدسية وروجينا رحمون وسليمان قطان وعبير بيطار، وبغياب النجم علي القاسم لتوعكه لكنه الحاضر بروجه، ليحل الفنان عدنان عبد الجليل بشخصية الجد.
أخذنا العرض إلى الحكاية المركزية، أي حكاية الحفيد العائد إلى الجدة المنتظرة مع مفارقة لافتة، حضور حفيد زائف وزوجته في سياق لعبة مسرحية محكمة ستستدعي مفاهيم السعادة والإرادة والأحلام ومحاكاة لقول نبيل أرساه –كاسونا- «وجود قدميك على الأرض أيضاً» من أجل التوازن بين الحلم والواقع، بين الوهم الجميل ومقاومة ذلك الواقع، إذ إن تطييف أسلوبية –كاسونا- هنا أي في المحافظة على الخيال على قيد الحياة، أصبح ملهماً بما يكفي أن يذهب عشاق المسرح وصناعه من أمثال الفنان هشام الكفارنة إلى المحاكاة الواعية «للأشجار تموت واقفة» من أجل إعادة دينامية الفكرة، بأسلوبية لافتة تدفع شرط العرض على المستوى التقني/ القيمي، اتساقاً مع الحكاية الرئيسة حكاية الإرادة والثبات مغزى وقوف الأشجار وانتصابها.
تقول الجدة «أمانة والي» للحفيد الافتراضي: عليك ألا تظل سائراً على السحب العالية عليك أن تنزل إلى الأرض، هنا ثمة قبض على دال العرض عبر متنه الحكائي وقيمته المضافة، والتي لم تذهب إلى أرضنة النص في وعي المتلقي السوري والعربي، بل عبر ذلك التراسل الحكائي الذي يقبض على الجوهر بعيداً عما افترضه أليخاندرو كاسونا بفصوله الثلاث وبرمزيتها العالية، يذهب مخرج العمل إلى تشكيل هذه الفصول لا اختزالها فحسب، ليشي ببشر يصمدون أمام العواصف حتى إذا ما انهزموا ماتوا وقوفاً على أقدامهم، كما المشهد الأخير في العرض المسرحي الذي جسدته الفنانة أمانة والي بكل اقتدار.
عمل عبّر عن امكانيات ممثليه وبتواتر حبكة درامية انسجمت مع أسلوب أكاديمي تتكامل فيه شروط الفرجة المسرحية وبنيتها الفنية، وبلغة العرض المسرحي الحاذقة على ألسنة أبطاله بعصبها التعبيري، بليونته وضراوته بآن معاً.
مأثرة إضافية قدمها المخرج الفنان هشام كفارنة في سياق مشروعه المعضد برؤى التجريب والمحاكاة الفاعلة لقيم النص وأبعاده الإنسانية، الذي حرر وعي الحكاية لصاحب الأشجار تموت واقفة ومركب بلا صياد وغيرها الكثير، في مأثرة المصائر لبشر يحلمون ويختتمون حياتهم بصدق وسعادة.
استعادة لأسئلة المسرح المعاصر وديناميته في التعبير والتغيير، تعبير صوره وقيمه المضافة الأكثر حضوراً في الوعي المسرحي والأكثر استحقاقاً لدالة التغيير في الحياة والسلوك، خبرة جمالية قدمها مخرج وفريق عمله هي أكثر من احتفال بالقيم، وإنما تحرير الوعي بها.
وفي جدلية الحلم والواقع، والسعة المسرحية في نص فرجة يليق بالعقول، هي فرجة معرفية، تعاين هذه الجدلية ليصبح الحلم واقعا بشكل أو بآخر.
.