فضاء الوسط

أفول الشعر العام.. كولين مكاي يوروزين (ترجمة حيّان الغربي)

أفول الشعر العام.. كولين مكاي يوروزين (ترجمة حيّان الغربي)

ثمة العديد من أنواع الشعر، بيد أنني لن أتطرّق إلا إلى التفريق بين الشعر الشخصي، بتعبيراته وتأمّلاته الخاصة حول الحياة والموت والحب والفقد والتجلّي، من جهة، وبين الشعر العام الذي يجسّد التفاعل مع صيرورة الأحداث والآراء الاجتماعية، من جهة ثانية.

قد يتصدّى أي شخصٍ لكتابة النوع الأول من الشعر في أي مكانٍ وزمانٍ يتيح للموهبة أن تعبر ذاتها. أما الصنف الثاني فهو يعتمد على صيرورة الأحداث لتقوده إلى مصيره، فإذا كانت الصيرورة تتقدم ببطءٍ، عندئذٍ لن يكون الشعر الناتج رائعاً حتى وإن كان الشاعر موهوباً. وإذا ما ألقينا نظرةً على الشعر العام في بريطانيا اليوم، لوجدنا أن قسطاً كبيراً منه يستلهم مصادر تسري بالوكالة، وهي مصادر أدبية في معظمها. فقد تفاعل ساسون وأوين ومكديارميد وأودين وغيرهم مع أحداثٍ مؤثّرةٍ، من قبيل الجبهة الغربية والكساد والكفاح ضد الفاشية خلال ثلاثينيات القرن المنصرم. بيد أن الشعر، في أعقاب العام 1939، شهد انحداراً في المستوى، فقد ألهمت الحرب العالمية الثانية ضد الألمان والحرب الباردة ضد الشيوعية عدداً أقلّ من الأعمال الشعرية.

ويبدو كيث دوغلاس وهاميش هندرسون شخصيتين أقلّ شأناً إذا ما قورنا بأسلافهما في الخندق، كما لم تبلغ أي قضيةٍ قط، بما فيها النسيان النووي، المستويات الإبداعية الشاهقة التي وصلها التعاطف والغضب الناجمان عن المأساة الإسبانية. فمنذ الحرب العالمية الثانية، انحسرت الإمبراطورية البريطانية كقوّة عالمية مهيمنة ولم يواجه الشعراء البريطانيون، بالتالي، الورطة التي ألفى أبناء عمومتهم الأميركيون أنفسهم في مواجهتها من حيث العيش في ديمقراطيةٍ قادرةٍ على القيام بأعمالٍ طغيانيةٍ على نطاقٍ واسعٍ في حين تتعارض أسطورتها أيضاً بصورةٍ صارخةٍ مع الأفعال التي تقوم بها بين الفينة والأخرى على أقل تقدير.

لم يظهر غينسبيرغ بريطاني، ولكنّ الكثيرين استلهموا كتاباته من خلال محاكاتهم لقصيدتيه ذائعتي الصيت “عواء” و”أميركا”، وقد كان مستوى تلك القصائد جيداً، فشكّلت محاكاةً حركيةً أحياناً وقويةً في أحيانٍ أخرى، ولكنها تبقى محاكاة على الرغم من كل ذلك. نحن لم نخضع للحكم الدكتاتوري أو لحكم الحزب الواحد، وبالتالي يبدو الوصف: “كاتب بريطاني منشق” خاوي المعنى ولعلّه من المرجح أن أولئك الذين يسعون غالباً إلى التكنّي بهذا الوصف هم عينهم من ينالون أعلى مستويات الحفاوة والتصفيق من قبل المتنفذين القادرين على منحهم الألقاب والتكريم.
كم من طبعةٍ من ملاحق الأحد الأدبية تصدر دون أن يتم إغداق المديح والمكاسب على أي شاعرٍ بديلٍ راديكاليٍّ آخر أو أي شاعرٍ نسويٍّ جديد أو ما بعد نسويّ أو شاعرٍ واقعيٍّ رصينٍ من صفوف الطبقة العاملة؟ لم يظهر مثيلٌ للشاعر والروائيّ يفتوشينكو في هذه البلاد إذ لم تشهد بلادنا مذبحة كمذبحة بابي يار التي نفذها النازيون في أوكرانيا، وبالتالي نحن لم نشعر بتهديد وجوديّ بهذا القدر. هل كان ينبغي أن نواجه مذبحةً كهذه؟ لقد عشنا مأساتنا الخاصة الشبيهة بمأساة البوسنة وكوسوفو لدى نهاية عبّارة سترانير لسنواتٍ عديدةٍ، ومع ذلك، أيّ فنٍ ألهمته؟

يبدو أن ذلك الصراع قد أثّر على الأدب البريطاني كما لو أنه ألمٌ محدودٌ ضاغطٌ جديرٌ بالتجاهل وليس إجحافاً واضحاً يتطلّب التزاماً صارماً بالحقيقة. فمع تصاعد عدد الإصابات، يكتفي الكتّاب البريطانيون بلعب دور مهرّج البلاط “الجسور” أو “ستوكبريدج الغاضب” وهو يتبرّم حيال الحكومة أثناء تناوله وجبة طعامه كاملةً. لا يفتقر الشعر للتعاطف، ولكن في أي سياقٍ نوظّف هذا التعاطف؟ هل يوجد شاعرٌ واحدٌ في بريطانيا ممن لم يتمنوا في سرّهم، ولو مرةً واحدةً، لو أننا نخوض حرباً أو نخضع لإرهاب الشرطة السرّية فلعلّه يغدو لديه موضوعٌ جديرٌ بأن يكتب عنه؟ هل هناك أي شاعر ينظم الشعر العام ويلتزم بموضوعٍ معينٍ لم يشتبه في نفسه، في أصدق لحظاته مع ذاته، أنه من متعقّبي الحوادث؟ ثمة من استخدم يوماً أسلوباً منمقاً في وصفه الشعراء بالأشخاص القابضين على جبهات الضمير الإنساني. فإذا كان الأمر كذلك، إذاً لا بدّ أن الشعراء اليوم عالقون في مفارقة الجبهة، أي أن أولئك المسيطرين على الجبهة المناهضة للبربرية لا ينالون التقدير إلا بالقدر الذي تعتبر فيه البربرية تهديداً، وفي حال انحسر المد البربري، عندئذٍ يتلاشى التهديد وبالتالي تزول الأهمية الاجتماعية التي اكتساها أولئك المنافحون ضد البربرية. وهكذا ينزل النصر الهزيمة بالمنتصر.

هذا هو الحال في هذه البلاد في زمننا الراهن، إذ يكتفي الفن، الذي ينير النفس خلال ساعات الظلمة، بإلقاء شعاعٍ باهتٍ في نهار السلام والحرية المكفولة. ولا يسعني إلا أن أعتقد أن الضوء الذي يشع من الفن البريطاني، على صعيد الشعر العام على الأقل، ما زال ضعيفاً ومتعثراً منذ سنوات طوال، الأمر الذي أسهم في إصابتنا بمرض ألزهايمر على المستوى الوطني، إذ يفقد مجتمعنا إحساسه بالماضي بشكل تدريجي وببطء، بل ولا يشعر بالحاجة إلى تطوير رؤيةٍ للمستقبل، وبدلاً من ذلك، يعيش متعة الحاضر الذي يستعاض فيه عن الحقوق الأساسية والواجبات الفكرية المدروسة للمواطن بالامتيازات المفسدة والمتعة الاستهلاكية السطحية. لعلّ الجبهة والبربرية أصبحتا في الداخل وليس على الحدود أكثر من أي يومٍ مضى.

.

*شاعر ومترجم – سوريا

لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى