النص الذي لم يأتِ: هل يمكن للحرب أن تشتقّ لأهوالِها معانيَ رومنسيّة !؟.. بوزينون الحكيم
تأمَلات - 4

التّاريخ: لحظة زمنيّة آنيّة في حلكة ليل مظلم ،صمتٌ تكسره السّيارات القليلة العابرة، شعورٌ داخليّ يهمس في رأسي أن الوقت والمكان خجِلان من شيء ما ! والمكان في هذه اللّحظة ساحة باب توما؛ أحد أبواب الشّام بقوسه الرّومانيّ المُجانب لفرع من فروع نهر بردى، بردى نهرُ صَبا الشّاعر أحمد شوقي أمسى اليوم مستنقعاً آسناً ومرتعاً للنّفايات والجرذان. هنا نزل وأقام وبشّر بالمحبّة والسّلام القدّيس توما؛ أحد رُسُل السّيد المسيح الاثني عشر.
رجلان كهلان ملتحيان يمدّان سجادتيهما على الرّصيف، ويستقيمان للصّلاة، على الرّصيف المقابل؛ عبْر الشّارع ينبطح شابّ بلحية شعثاء وشعر أشعث، يُلصق أذنه ببلاط الرّصيف، يتنصّت على نبض الأرض، وربّما على ضجيج آلات حرب الأنفاق السّرّيّة، من زقاق جانبيّ معتم تقترب امرأة مسنّة ينبئ عكّازها عن حالها، تجلس للحظات قليلة قرب الشّاب، هل أنهى مهمّته؟ ربّما، هوذا ينهض مطواعاً ويساعد المرأة على النّهوض، ثمّ يذوبان في عتمة الزّقاق، في الحروب القذرة تندفع الأمراض النّفسيّة كموجة عاتية ويكثر الفِصاميّون؛الضحايا “اللّاملحوظين” غالباً.
أنا والمكان في هذه اللّحظة تَشابكُ أزمنة تلتقي، تتنافر؛ الجاذب الوحيد بينها فكرة التّناقض بين الحياة والموت، المكان هذه اللحظات بمن فيه عالم صغير للأشباح المرئيّ منها أو المتواري بخوف في العتمة خلف نافذة أوستارة، وهناك كثيرٌ من الأشباح المترصّدة ببنادق خلف أكياس رمل أو جدران، من على مرمى مقلاع تتعالى تكبيرات لاتعدو كونها استنساخاً لمتواليات دمويّة يتمّ نبشها من أضرحة بادت، هيّاجٌ غريزيّ يندفع من ماضٍ إشكاليّ ومتلقَّن أُفهمَ الماضي مُقدّساً لايأتيه الباطل، كائنات شتّى وكلٌّ يحمل معه زمنه في حلّه وترحاله.
خلفي القوس الرّومانيّ وتاريخ عتيق انقضى وبقيت تمثيلاته وعلاماته المازالت تنبض بأزمنة متعاقبة، وأمامي على بُعد رمية مقلاع سوق الهال، أصوات الثّوار، المجاهدين، المرتزقة، الخارجين على القانون والنّظام، طلّاب الحرّيّة والعدالة الاجتماعية، الخونة المأجورين … سمِّهم ماشئت، لكنّهم أمامي وقد احتلّوا الأبنية والأزقّة، أصوات قذائفهم وصرخات تكبيراتهم تمزّق عباءة ليلي الكانونيّ المثلج، أمامي في هذه اللّحظة بالذّات تعبر تهويمات أزمنة خلافة متعاقبة، لقرون غابرة تبّع استرجاعيّون، برايات سود ورُقع وصحائف شرعيّة تتوعّد وتستعيد زمنَ الرّدّة.
وتحت قوس النّصرالرّومانيّ العتيق؛ حولي استرجاعيّون أُخر،رمَوا عنهم عباءة الخلافة، واستلهموا من ذات المَعين نظريّات سياسيّة وشعارات تستجيب لمفاهيم عصر ما بعد الحداثة والثّورات الشّعبيّة، حالتان عجائبيّتان كسرتا قواعد المنطق الفلسفي والرّياضي معاً، كيف للزّمن أن يُستعاد إلّا في المخيّلة والتّجريد الرّياضي!.
قبل ساعة من الوقت كنتُ على رصيف المتحف الوطنيّ ألقي السّلام على التماثيل الرّخاميّة المنتصبة في فنائه الخارجي، تماثيل فينيقيّة وآراميّة ورومانية ومن عصورالأمّ الأولى استشعرتُها خائفةً مكتئبةً في ليل بهيم، أمّا الصّمت الضّرير فمثَلهُ مثَل متشرّدٍ مُقعَدٍ يمزّقه الرّصاص الطّائش والقذائف والأفكار المتنافرة.
هنا في باب توما، وهناك أمام المتحف الوطنيّ أبحث عن معنى ما لبانوراما الموت والحياة: موتٌ حتميّ طال موعده أم قصر، وحياةُ فقر وبؤس وتقطيعات زمنيّة عابرة اسمها أحلام البسطاء المتواضعة، أضواء شاشات الهواتف الجوّالة الخائفة تبدو كيراعات هائمة في الشّارع المعتم وخلف النّوافذ المعتمة، أشباحٌ بهواتف جوّالة تتقصّى وتتبادل الأخبارعن مكان انفجارسيّارة مفخّخة، ويتردّد صدى دويّ انفجارها في أسواق الشّام وحاراتها وفي زواريب الأزقّة الشّعبيّة الضّيقة، فتعكسه مرآة فالق قاسيون مواكب أصداء متداخلة تمزج الخوف بالحسرات بالأسئلة التّائهة.
كلّ قاطن في الشّام نصوصٌ لاتحصى من نصوص الحرب، وفي هذه اللّحظات مئات النّصوص الخائفة تتلصّص أوتصوّب بنادقها القنّاصة من الأبنية المقابلة، المتاخمة لسوق الهال، انفجرت قذيفة في حي ركن الدّين، وشب حريق كبيرفي حيّ المزّة القريب منّي، صوت الانفجار واللّهب الجهنّمي المتصاعد لم يحرّكا خيالي بما يكفي لارتكاب ولو بارقة نصّ، والشّتات الذّهني استعاد ذهولي المستنكرَ ردودَ فعلٍ رومنسية لشاعراتٍ وشعراء وأدباء ومفكّرين في وجه حرب مجنونة لاترحم الأطفال وأسرابَ الحمام، نصّي يرفض أن يأتي.
قبل ساعة من الزّمن الهارب عبرالسّوق المحليّة للحرب نساء تجهضن ومواطنون ورجال إطفاء يتفقدون مابقي من الشرفات وأصص الورد، وكنت أدير ظهري لفندق شيراتون دمشق، مستقبلاً موجة بردٍ ثلجية تلتفّ حول دارالأوبّرا وتصفعني بقوّة.
لن يأتي النّص الّذي أبحث عنه في فراغ الشّوارع وملاذات العدم، المئات من نصوص حرب دمويّة مستعادة في رأسي، تحوم حولي الآن كرفوف الغربان الّتي باغتتها قذيفة انفجرت في الحديقة المقابلة للمتحف الوطنيّ، وهناك؛ في الجوار أشجار الكينا الّتي تُدثّر المتحف، فاتّخذتها الغربان مضجعاً ومقرّ إقامة؛ الغربان هي الأخرى تشتّتتْ في سماء دمشق وعمّ النّعيب الفضاء الدّاكن المرقّش بالنجوم، والنّصّ لم يأتِ بعد!.
أحاول أن أقنصَ نصاً أدبياً ما، نصّاً أستلُّه من واقع اللّحظة، ودون أنْ أُلزم نفسي الشّعورَ بإثم الخروج قليلاً عن واقعيّته، فأجعله أخفّ ألماً ومرارة.
أزعمُ أن النّصّ يولد من تفاعل وتواشج أحداث وعلاقات بنائية تتمخّض عن معنى، كلّ تفاعل كيميائي يحصل دون فوران، ولا يطلق حرارة تعطي للتّفاعل قيمة ومعنى لامعنى له، لا أثر، وناتج التّفاعل ليس بالضّرورة أن يكون رواسب ماديّة تُدعى النّص، لكنّه بالتّأكيد الفكرة المخصّبة وشعلة المعنى الكامنة فيها، العثورعلى المعنى بغضّ النّظر عن إغواء السّعادة الخادع، فالسّعادة مشاعر لحظيّة زائلة؛ منقضية.
كلّ الحروب تحمل السّعادة لأربابها، لكنّها تحمل أضعاف ذلك من الخوف والموت، وتوزّع أهوالها على أبناء البؤس والشّقاء. أيّ معنى لذلك!؟ أنا في قلب المعنى الّذي لاأراه، لا أقبض عليه متلبّساً ولو حقيقة مؤقّتة واحدة! وأيّ نصّ سأكتبه وأدّعي ابتداعَه سيكون نصّاً مبتذلاً مثل لطخة فوسفور صغيرة على أنف رصاصة صديقة أو عدوّة، اللّطخة اللّعينة تلك تنبّه القنّاص وتعطيه تقريراً سريعاً عن دقّة تصويبه القاتل ولستُ أنوي قتلَ أحد، مع ذلك لا المخيلة ولا القذائف أسعفتني بمعنى إنسانيّ حقيقيّ أو مقارب لأفواه تلك البنادق الغادرة اللّئيمة، وكل أفكاري طارتْ مع غربان تحلق تائهة فقدتْ بوصلتها في ليل بهيم.
في مؤلّفه (ترياق ضدّ الفوضى)، بما يتضمن من مبادئ أخلاقيّة مبنيّة على الآداب والدّين والطبيعيّات والأساطير والبحوث العلميّة يرى عالم النفس الكندي البروفسور جوردان بيترسون أنّ (السعادة ليست الهدف من الحياة)، ومن الأفضل البحث عن المعنى بدلاً من السّعادة لأنها عابرة، إن كانت السّعادة الهدفَ من الحياة، فما تفعل إنْ لم تكن سعيدا؟.
ساحة باب توماً: ما من داعٍ لاختراع مشهد خياليّ، رغم أن اللحظة تدعو لإعادة النّظر في زعمّ الرّوائي الإسباني غوتسيلو فيما قال في وصف علاقته الحميمة بصديقه جان جينيه: (عرفتُ منه أن أفصلَ بين الحقيقة والصدق، فليس كل ما يروى بصدق هو حقيقة).
أزعم أنّي في لحظة امتلاك الحقيقة والصّدق معاً، لكنّي أحتاج إلى المخيّلة المبدعة، وأفتقد إلى لغة تتعشّق المعنى، كان طريقُ العودة الأرصفةَ الخالية وأزيزَ الرّصاص ولمعانه الأزرق والفجوةَ الّتي أحدثتها قذيفة في جدارمنسيّ؛ كان طريقي الحقيقةَ التوثيقيّة في مشهد بصري أبلغَ ألف مرة من أيّ نصّ أدبيّ ،فالحقيقة التي تروى تتخلخل وتفقد أهمّ عناصرها الدّراميّة: أبعادَ المعنى الحقيقيّ بمكنوناته الدّاخلية .
إقرأ أيضاً : العالم بيتنا الكبير ..
إقرأ أيضاً : أدونيس .. خيرُ البلاد ماحملك ..
*شاعر وكاتب – سوريا