رأي

سلمان رشدي وفتنة “الرأي المشروع” .. يزيد جرجوس

عقب حادثة طعن الروائي البريطاني (سلمان رشدي) في (12 آب 2022) اشتعلت الصحافة العالمية ومواقع التواصل على حد سواء بردود الأفعال المتنوعة، المُـتَّسِمة بالتّناقُضِ والتّنوع، ولكنّها أيضا اتصفت بأنها لم تُعَبِّر عن المعرفة والحجة المنهجية، بقدر ما عبَّرَت عن تَمَترًسٍ مُسبق ضمن شريحة تؤيد هذه الجزئية أو تتخذ منها موقفا مناهضاً، كاتب هذه الأسطر يعتقد بأن القضيّة من الأهمية بمكان لعالمنا الإسلامي كجزء أساس من هذا العالم، وربما كالمعني الأول بهذا النّوع من القضايا لأهميتها، ولأنها تَمَسُّ أهم مكوناته الحضارية وهو “الفكر الإسلامي”.

العقل الإنساني الحضاري الذي نحمله في هذا الشرق يستحق منا محاولات جادة لإجراء إطلالة على الموضوع ليس من زاوية الشجب والإدانة لأي من الآراء التي تنوعت، ولا من زاوية التّبرير، ناهيكم عن التحقير والشتيمة. لذلك كان لزاماً علي أولا أن أقرأ نص “آيات شيطانية” ودراسته أدبياً وفكرياً، وإلقاء نظرة واسعة على مجمل ما كُتِب أو حدث حول الإشكالية التي بدأت في أواخر ثمانينات القرن الماضي مع صدور كتاب “آيات شيطانيّة” وموجة الغضب التي رافقته وخاصة فتوى القيادة الإيرانية “بإباحة دمه” في (14.2.1989).

على المستوى الأدبي ..

يبدأ العمل من زاوية مرتفعة تعطي القارئ بارقة من الأمل بأنّه على وشك الولوج إلى نَصٍّ فكريٍّ يُعالِج القضايا التي تشغل باله بأسلوب عميق، حيث يهذي أحد بطلي القصة وهو “يسقط من الطائرة بعد انفجارها” فيقول:

إذا رغبت أن تولد من جديد .. فلا بد لك أولا من أن تموت .. وإذا شئت الهبوط على صدر الأرض .. لا بد لك قبل ذلك من أن تطير ..كيف لك أن تسترجع ابتسامتك المفقودة إذا لم تذق مرارة البكاء؟ ..

فيجيبه غناء البطل الآخر الذي يسقط قبالته في الهواء المتجمد:

“ليكن حذائي يابانياً، وسروالي إنكليزياً، ولتكن على رأسي من فضلك قبعة روسية حمراء، لكن رغم كل ذلك ليبقى قلبي هندياً.”

بداية موفقة وواعدة، ولكن النّص سُرعان ما ينحدر بالأسلوب أدبياً وفكرياً وبصورة محبطة، لتجد نفسك أمام قصة لا تمتلك أياً من مقومات الرواية، فالكاتب يقص علينا الأحداث دون راوٍ من قلب الحكاية، ودون أي بعد فلسفي لشخصيات النّص أو لوجهات نظرها وبنائها النّفسي إلا ما ندر، حتى تكاد تظن أن المَطْلَع لم يكن إلا استعارة من مكان آخر، عندما تقارنه مع سياقٍ من تداعياتٍ وأضغاث أحلام وكوابيس، وانتقال من المدينة إلى الطائرة إلى السقوط من الطائرة إلى غابة إلى قصر ثم إلى مشفى وقسم شرطة.. الخ، يترافق ذلك مع القفز من محيط شخصيات تتحاور وتتفاعل كعائلة مثلاً أو أصحاب مطعم إلى محيط آخر، أو حتى إلى حلم أو كابوس وبطريقة ركيكة غير متناسقة لا تمنحك قدرة على التجميع وفهم الإطار الذي تتم فيها تلك القفزات غير الرشيقة، ناهيك عن مبرراتها.

النص يشبه أدب قصص الخرافات والفانتازيا البريطاني ويذكرك أحياناً بقصص هاري بوتر وملك الخواتم، (وهو بالفعل رُشِّحَ لجائزة لوكوس لروايات الفانتازيا ولم ينلها)، يتحدث عن تحول فلان إلى تيس وتبادل شخصين في الشكل وبروز قرنين لهذا وظلفين لذاك، نساء ورجال أنصاف نباتات وحشرات عملاقة، الكثير من ذكر “السوائل الخضراء المخاطية التي تفور من الأنوف” و”الأجسام المتضخمة المقرفة” و”الملامح المتغيرة بصورة مقززة” إلى آخره من هذه الاستعارات والصور المُربِكَة في فجاجتها، والتي ربما يرتجي الكاتب من خلالها التعبير بطريقة غير موفقة عن انفعالات نفسية وتحولات إنسانية يحاول قسراً أن يصورها بهذا الأسلوب الفج، الذي ولضعف الترابط والانتقال فيه أخذ من الكتاب جُلَّ ما يمكن أن يَمتَلِكُه من الجاذبية والتشويق، حتى لزمني الكثير من الجّهد والتّركيز في محاولتي لإكمال قراءته، خاصة وأنني قمت بذلك لهدف بحثي لا تنفع فيه الاستقالة ورمي المادة جانباً قبل الانتهاء منها.

على المحتوى الفكري الموجه ..

يبدو لي أن المحتوى الفكري هو الأهم في قضية التعاطي مع الكتاب بطريقة منهجية لتفكيكه ومحاولة فهم “رسالة الكاتب” من ورائه.

الكاتب يَتناول محورين عريضين يوظف الأحداث خدمة لرأيه بهما، وهما “مناهضة التغريب” و “تناول الإسلام”، وبينما تبدو مناهضته للتّغريب واضحة ومُتَّزِنة، يعاني تناوله للإسلام من الاضطراب وعدم وضوح الرؤية، فهو ينوسُ بين موقعي التقدير والإساءة، فيما تضيع الفوارق بين الموقعين أيضا في أغلب الأحيان.

تناول التغريب ..

هناك موقف واضح لِلنَّص من التّغريب الذي يُناهِضه بصورة متوازنة، وينتقد المجتمع البريطاني و”عنصريته” التي تنتقل بصورة سلبيّة حتى للمهاجرين الذين يعانون منها ثم ما يلبثوا أن يصابوا بها هم، وهذا أمر صحيح في سيكلوجيا تعاطي “المهزمومين” مع “المنتصرين”، ولا يمكن إغفال تلك المرحلة الطويلة والعميقة من الاحتلال البريطاني الفائق النهب للهند، والذي يرخي بظلاله حتى اليوم على النتاج الثقافي والاجتماعي الهندي، رغم تَخلُّص الهند شبه التّام من سطوة التّبعيّة السّياسية لبريطانيا، ولكنها لم تخرج من تحت عبائتها فكرياً.

في بداية القصة (الفصل الثاني) يُعَبّر البطل (صلاح الدين) عن رغبة بالتخلي عن “بومبي المليئة بالغبار والمتشردين”، والانتقال إلى لندن و”جنيهاتها الاسترلينية وجوها الرّطب الرائع”، بينما والده الذي عاش في بريطانيا واجتهد ليصير بريطاني، يعودُ لِيَتَنَسَّك في الهند لخدمة الدّين الإسلامي، وبعد أحداث كثيرة ومعقدة وفي (الفصل التاسع والأخير) يصف الكاتب العودة المؤثرة لصلاح نفسه إلى الهند معتذراً من والده الذي يُحتضر، والذي يسامِحُه متعالياً عن الخلاف، تاركاً إياه وراء ظهره، ويكتمل المشهد المشرقي كما بدا لي، بوقوف صلاح الدين في السطر الأخير على نافذة منزل والده في الهند وهو “يراقب بحر العرب من النافذة”، في إشارة للدور العربي في صناعة تلك الصورة المشرقية في عالم يكتنز من السحر تماماً كما يمتلئ بالإرهاصات التي يجب التّعاطي معها بالتّطلِّعِ نحوها بعُمقٍ لا بإنكارها والتّعالي عليها.

في حديثه عن “عنصرية المجتمع البريطاني” يخبرنا عن التعذيب على يد الشرطة البريطانية حتى عندما علموا بأن أحد المعتقلين بريطاني و”لكنه من أصول هندية آسيوية”، ويقرن ذلك ببعدٍ آخر من الشعور بالدونية بالمقابل، فعندما يسقط أحد الأبطال (هندي) من الطائرة ويصل لمنزل هنود في لندن يوقولون له “هنا مكان آمن لك بين أبناء بلدك”، فيجيبهم “لستم أبناء بلدي لقد قضيت نصف عمري محاولا التخلص من انتمائي هذا”.

تناول الإسلام ..

بصورة غير مفهومة إلا لجهة رغبة الكاتب في قول شيئ ما بخصوص الإسلام، ينتقل النّص في أغلب فصول الكتاب للحديث تصريحاً، وإن كان بصورة “الأحلام” أو “الفانتازيا”، عن الإسلام ومحمد وبعض من صحابته مثل (عائشة وخالد وحمزة وبلال وسليمان) الذين يذكرهم بأسمائهم، فيما يسمي محمد بـِ “ماهاواند” ومكة بـِ “الجاهلية”.

هنا يبدأ الكاتب بالتّرنح بين أفكاره التي يبدو أنها تغزو رأسه بصورة متضاربة، لينتقل مما يبدو عليه التقدير إلى ما تَغلُب عليه الإساءة بصورة غير واضحة الدّوافع، إلا إذا كان حامِلُها الموضوعي هو اضطراب رؤية الكاتب نفسه، وهذا أمر لا يُدانُ هو عليه، ولكن يُلامُ من يعتبره ذا صفة “مرجعية” أو “إبداعية”.

فبينما يقول في (الفصل الثاني) “ماهاواند” أن “ماهاواند (محمد) مؤسس واحد من أعظم الأديان” ويصف احترام “أبو سنبل كبير الجاهلية” (أبو سفيان) له وأمره للناس في مجلسه بأن يستمعوا لكلامه لأنه “رسول من الله”، يعود للحديث في (الفصل السادس) عن أن ماهاواند كان “يتلاعب بالوحي، وغير سوي في علاقته مع النساء، وأنه بدأ يضع قوانين لكل شيء في حياة الناس فيقرر لهم بأي يد يحكون جسدهم”، لا بل يذهب إلى حد الحديث عن “حلم لجبريل” يرى فيه “ماخوراً في الجاهلية يسمى الحجاب”، وهذه إيماءة فاضحة في محاولة نيلها من مشاعر المسلمين اليوم، وهي تغالط الحقيقة التي يعرفها القارئ المتعمق، وهي أن الحجاب كما هو معروف اليوم لم يكن له وجود في زمن محمد، ولا حتى فكرة فصل الجنسين أساساً، فالنساء والرجال كانوا يتوضؤون في نفس الزمان والمكان، وليس كما يقول رشدي ” النبي ماهاوند كان يخفي نساءه عن الناس”(الفصل السادس)، مما يُدخِلنا إلى مغالطة ثانية يقع فيها الكاتب في مقارباته النقدية للإسلام، حيث يخلط  بطريقة غير عارفة بين الموروث والواقع الإسلامي، وبين الدين والحقيقة التاريخية السالفة، فالإسلام هو ليس بعض المسلمين في فترة محددة من تاريخه، وإن كانوا جزءا من سمعته ولكنهم لا يمثلونه ولا يعبرون عن تطلعاته الأصيلة، وعندما يتحدث عن “سعادة أهل يثرب بسماح ماهاوند لهم بالزواج من 4” يرتكب مغالطة أخرى فذلك “السماح” ضمن سياقه التاريخي لم يكُن “إباحة” ولكنه كان تقييداً.

في فصله الثاني يتحدث النص عن “خطورة انتشار دين ماهاواند على حالة الموبقات السائدة كخطف النّساء وطلب الفدية وتعاون العصابات مع كبير الجاهلية” الأمر الذي دعى هذا الأخير للتفاوض معه”، ويعود ليقول في (الفصل الثالث) “كانت روزا قد أوقعت جبريل أسيراً لرغباتها، تماماً كما كان الملاك جبريل أسيراً لرغبات ماهاواند الذي يجبره على الكلام حسب رغباته”، لتتضح ربما هنا وجهة نظر الكاتب التي يريد إيصالها من كل هذا الصخب غير الموفق من سرد الأحداث المتراكمة، فالرجل يعتقد في نصه أن محمد ابتكر الإسلام من عقله، وهذه من ناحية انتروبولوجية وجهة نظر يمكن النقاش فيها، وأعتقد أن كبار المفكرين الإسلاميين كانوا على استعداد دائماً للبحث فيها، فالفكرة تناقش بالفكرة، والإمام الخميني الذي أصدر الفتوى بإهدار دم سلمان رشدي، هو نفسه قال بأن “الإسلام قادر على رد جميع الشبهات التي توجه إليه، والحكومة الإسلامية لا ترد على النقد الفكري إلا بالفكر والمنطق”، ثم جاء العلامة الإسلامي (محمد حسين فضل الله) ليقول في عام 1996 “علينا فتح باب النقاش حتى فيما نعتقد” في رسالة بالغة الوضوح على شجاعة الفكر الديني في مواجهة النّقد، ولكن فقط عندما يمتلك المفكر الديني المعرفة الكافية والأفق الواسع اللازمان لذلك.

لا يسعني وأنا أسبر المحاور الفكرية لعمل رشدي هذا إلا وأن أنبِّه لكثرة تكرار الحديث عن “المضاجعة” والجنس في القصة حيث يرد بشكل متواتر لا بل ويفرد له صفحات في (الفصل السابع) “الملاك عزرائيل”، والذي رُبّما يُعبِّر عن مشكلة عند الكاتب نفسه أكثر مما يعبر عن رأيه في الماضي، حتى أن رئيس حزب المحافظين البريطاني السابق نورمان تيبيت وصفه بأنه “شرير طالب شهرة .. وحياته العامة سلسلة من الفضائح والتصرفات النزقة المشينة”.

أعتقد أن بعض الفكر الإسلامي الذي يغرق في الحديث عن “الجنس وضوابطه ومحرماته”، يُعَبِّرُ أيضاً عن طريقة تفكير “رجال الفقه” الذين يسوقونه أكثر مما يعبر عن الرسالة المحمدية.

“الآيات الشيطانية”

في (الفصل الثاني) وفي معرض حديث الكاتب عن عودة ماهاواند من الجبل و”دخوله خيمة الشعراء حيث يصفه كبير الجاهلية” بـِ “رسول من الله” يتلو الرّجل الآيات التي تتحدث عن اللات والعزة ومنات “الغرانيق العلا”.. “ليسود ارتياحٌ كبير ويسجد كبير الجاهلية ويتبعه الجميع”، بعد ذلك يقول الكاتب أن “ماهاواند تراجع عن تلك الآيات واعتبارها شيطانية”، فعنوان “آيات الشيطانية” يأتي من هذه الفقرة تحديدا، وليس كما يظن معظم الذين استفزهم العنوان الذي استُخدِم كثيرا لاستنفار مشاعر المسلمين، وقليلاً ما تم توضيح فحواه، فمسألة نسخ آيات من القرآن هي مدار نقاش وسجال منذ قرون في الفكر والفقه الإسلامي، ولم يكن سلمان رشدي أول من تناولها.

ماذا بعد..!

من الأمور التي لا يمكن إغفالها في سياق تفكيك ظاهرة “رشدي وآياته الشيطانية” كان تلك الرعاية التي حظي بها الرجل إثر الصّخب العالمي الذي ثار حوله، والذي أوقَدَت ناره وسائل الإعلام العالمية الغربية بالكامل وقتها، حتى أن ملكة بريطانيا منحته لقب “سير” فارس سنة 2007، ضمن مسلسل استفزاز مشاعر المسلمين وتصدير صورة “الغرب الراعي لحرية التعبير” الذي وبنفس الوقت يسجن أساتذة الجامعات الغربيين الذين يتجرؤون على التشكيك بالمحرقة، ما يعطي فهماً أعمق لمحاولات تكفير أو قتل الرجل التي جاءت ضمن هذا السياق الاستفزازي بقسوة تعاطيه مع المسلمين التي تضمنت الهجوم على شخصيتهم الحضارية باستخدام الأدب والإعلام، وأيضاً باستخدام الجيوش وتدمير الدول، مع سفور سياسة ازدواجية المعايير تجاه الاعتداء على مشاعرهم و”مقدساتهم” في مقابل تحريم التعاطي حتى ولو بحس نقدي مع الروايات التلمودية.

تقول التقارير الأمنية الصادرة عن حادثة طعن رشدي بأن رجال الأمن في قاعة المحاضرة لم يعترضوا طريق المهاجم، لا بل وتباطؤوا في التدخل حتى تمكن منه بعدة طعنات، مما يثير الريبة حول رغبة الاستثمار المستعادة في حادثة “آيات شيطانية” المتجددة، حيث نشبت على الفور معارك الآراء المتضاربة حد التكفير والتشهير والشتائم بين المسلمين على مستوى العالم، عقب الهجوم.

إن كل ذلك يدفعني للاعتقاد بأن الرّد على هذا النوع من المقاربات غير الناضجة مع معتقدات الملايين من البشر، بما فيها كتاب رشدي الذي نظّم (كيث فاز) مرشح حزب العمال البريطاني بعد فوزه في 1989 مسيرة تندد به وتطالب بمنعه لكونه “يتجاوز حرية التعبير إلى إهانة مقدسات وثقافات الآخرين”، يجب أن يكون بالفكر والتفنيد المنهجي الذي يُفتَرَضُ أن لا تخلو من رواده طائفة دينية أو فكرية، وإلا فإنّها ستعاني من التقهقر وستكون عُرضَةً للاستخدام والتوجيه، وذلك بالطبع لن يكون في صالحها.

 

إقرأ أيضاً .. ابن خلدون .. العرب والمسلمون

إقرأ أيضاً .. “الكم والنوع”.. إعادة قراءة لمفاهيم “ثابتة” ..

كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحاتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى