على ضفاف الزلزال!؟ .. د. نهلة عيسى

صديق لي مصاب هذه الأيام بما يشبه الجنون, يكون جالساً, هادئاً, مسالماً يتابع التلفاز, وفجأة ينتفض, فيصرخ في الحاضرين: من أضاع المفاتيح؟ فنسايره بالحديث: مفاتيح, أي مفاتيح؟ فيرد مستنكراً, مستهجناً السؤال: لدمشق سبعة أبواب, كلها مفتوحة, وزناة الليل على المفارق يترصدون ما خلف الأبواب, فأين المفاتيح, لكي تغلق الأبواب؟.
فيتصاعد نشيج البكاء في حلوقنا, ونكتم الدموع, ونرد على السؤال العبثي بالهراء, بأن المفاتيح مع الحراس, والحراس سراة ليل, تخفيهم العتمة, ولذلك لا يراهم, ولكن المفاتيح في أمان, ودمشق في أمان, وحراسها ساهرون.
فيهدأ الصديق, ثم تزول لدقائق لوثة الجنون, فيضحك من هرائنا, ويقول: ومتى كان لأبواب دمشق مفاتيح؟ جند الأرض هم أقفالها ومفاتيحها, فلماذا تكذبون؟ فنبادر بالتبرير, أننا نرد على الأسئلة, وأن ما قلناه, شبيه بما يقول, فيتصبب الحزن من وجهه دموعاً, ويقول: عقلي بلا ورقة توت, وأنتم تدارون عُريه, ليس أبشع من الجنون, سوى مدارة الجنون!.
ويعود للصمت المدوي كالنداء, بل ربما الاستغاثة, فنراهن على الدواء, ربما يكون حلاً لفك شراك العنكبوت من عقله المتعب, فيرمي من يدنا الدواء, ويحدق فينا بوجوم أقسى من الإدانة, ويهمس: خاسرٌ رهانكم, لا دواء لجنوني, في عقلي رعد, وأسوار, وأمطار, ومساحات من ليل بهيم, ونوافذ مغلقة سوداء, ورائها أسئلة, وخلف الأسئلة صخور, كلما فتحت نافذة داهمني سؤال, وكلما بحثت عن إجابة, اصطدمت بالصخور!.
فنعود للغمغمة, والقول: ربما لو استرحت, ربما لو غفوت, ستفتح النوافذ على نهار بأجوبة, فيهز الرأس ساخراً بمرارة: أنتم لا تفهمون, أنا أحدق في صخر, فيرتد البصر جداراً, فأتسلق الجدار على ركام ما بقي في عقلي الخرب من ذكريات, فأقع, فأعاود المحاولة, أعانقه, أتحايل على قساوته بنقش الأسئلة, وأدمدم في أذني الجدار: يا أيها الجدار, أعرف أن أجوبة أسئلتي انتحار, فلا تبح بما ترى, ولا تقل لي ماذا جرى, فيتلقف الجدار الثرثرة: يا صاح, مات الذين يجيبون, ويعرفون ما كان وما سيكون, خوفك هو الصخرة, والحقيقة هي الجدار, المعرفة وجع, وأنت هارب من الوجع بالجنون!.
يتابع باسترسال: لماذا أنا؟ فقد كنت من الواقفين على الضفاف, لا قاتلت بسيف فلان, ولا أكلت على موائد علان, لماذا أنا؟ فقد وضعت في أذني سماعتان تبثان صوت كمان, لا أزيز رصاص أسمع ولا صوت القذائف, ولكن بغتة صار الكمان كعوب بنادق, وصار يمام وحمام الحدائق قنابل تسقط فوق الرؤوس في كل آن, لماذا أنا, ولماذا غاب الكمان!؟.
ودون أي تلعثم, ولا ارتباك, ولا ملامح جنون, أراد أن يكمل متابعاً قصته مع الكمان, نادباً رحيله المفاجئ, فصحت في وجهه غاضبة: يا صاحب الكمان, وقوفك على الضفاف, منتظراً ملكاً أم كتابة, قادك إلى الصخور, لأنك لم تحسب حساب أن من يرمي العملة يتلاعب بالمراهنين, فالعملة وجهان, وجهٌ لملكٍ يبني رامي العملة عرشاً له من الدماء, والوجه الآخر للمراهنين البائسين, وليس للكتابة!؟.
يا بائس الرهان: من يرمي العملة يمسك بالوجهين, ليضيع الوطن بين بين, بين صخورٍ وقف عليها أمثالك المراهنين, فدارت الأرض دورتها, وباتت صخوركم زلازلاً, وبين حالمين بملكٍ على جماجمنا, يدفعون ثمن العروش وطناً, ثم ينقبون بين الركام عن أجسادنا التي يتهمون بها الزلزال!!.
يا صاح، عُد إلى ادعاء الجنون, لا شيء فيما قلته صواب, سوى أن للأرض جندٌ, وللجند ربٌ, ومعاً سيحميان الوطن.
إقرأ أيضاً .. تشابه الحروف!؟ ..
إقرأ أيضاً .. حوار الطرشان!؟ ..
*أستاذة جامعية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب