عن ذاكرة حرب غزّة الممتلئة بالحطام
جريدة السفير … تصادف هذه الأيام ذكرى مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على غزة صيف العام 2014.
يجترّ الغزّيوّن ذاكرتهم وتبدأ التفاصيل ببناء عرشها على نار التجربة المرّة، تفاصيل واحدٍ وخمسين يوماً كانوا خلالها في مواجهة مباشرة مع الموت وآلته الإسرائيلية، مواجهة ودّعوا فيها أكثر من ألفي شهيد.
جروح المواجهة ما زالت طريّة، ورائحة الموت لم تغادر المكان بعد، لا تغادر هذه المدن ربما. هذه المدينة هكذا، لا تعرف إلا أن تكون كذلك، بائسة وغريبة ولا يمكن فهمها.
لا أعلم إن كان استخدامي لفعل “اجتر” في موضعه أم لا؟ ولكن بالتأكيد أن كلّ ما يتعلق بالحرب الماضية لم يغب خلال العامين الماضيين لا عن ألسنة الغزّيّين، ولا عن بالهم وحواراتهم. أي حديث في أيّ موضوع يفضي في النهاية للحديث عن الحرب. قبل الحرب، بعد الحرب، هذه مصطلحات تجذّرت في العقل الغزِّي كأنّها مبتدأ التاريخ ومنتهاه. قبيل الحرب الأخيرة، كان الاستحضار الدائم بالذاكرة لحرب 2008، وحرب 2012، ولكن قسوة الأخيرة على ما يبدو كانت كافية لتطفو على سطح الذاكرة والحوارات.
في حديثك مع أصدقائك، وتفتيشكم لكلّ أدراج الذاكرة والروح، ويا للعجب تجد أنكم متشابهون تماماً، لقد غابت تفاصيل كثيرة من حرب العام 2008 عن الذاكرة تماماً، لا أعلم ما الذي جعل طبقة الذكريات تلك تختفي تماماً. هل هو شظف العيش أم رتابة الحياة أم قسوة الحرب الأخيرة؟ هل في الذاكرة أيضاً البقاء للأقوى للأقسى والأكثر فتكًا؟ ولكن الحاضر على الدوام منذ ذلك اليوم هو ما لا يمكن نسيانه، هل نسي أحدنا الضربة الجوية الأولى في أول أيام حرب 2008. صور وروائح وملامس تشكلت في الذاكرة، على شكل طبقات، كأنّ بعضها يكسوها الاسمنت المسلح، وبعضها الرمال، وبعضها الغبار. لن تجد إلّا الليل والحوارات الشخصية لتكنس كل ما على سطح الذاكرة، لتعود الصور والروائح جليّةً أمامنا، الليل كظرفٍ يفضي لسيف في الضلوع ويسله بما أنّ “القلب غمد الذكريات”، كما قال يوماً الشاعر أحمد بخيت.
لا تعلم كيف تتسلّل كل تلك الذكريات بكل ثقلها ووجعها إلى محادثاتنا وحواراتنا ما إن تبدأ مع صديقك حوار يدور عن قرعة تصفيات كأس العالم، ستجده قد انتهى بالحديث عن مباراة ألمانيا والجزائر خلال المونديال الأخير، وعن الشهداء الذي قضوا بقصف البوارج البحرية الإسرائيلية، وهم يشاهدون المباراة تلك الليلة على شاطئ بحر خان يونس. تمشي برفقة صديقك على شاطئ البحر، تدردشون عن البحر والسباحة وتقنيات الغوص، وننتهي بتذكر شهداء عملية “زيكيم” الفدائية، التي قام بتنفيذها مقاومو غزة، في أول أيام الحرب.
تسلّل الذكريات تلك أمر يتكرّر في أغلب حواراتنا. قبل فترة كان لي حديث مطوّل مع صديقة، كنا نتحدث عن أغنية ما، وجدنا أنفسنا قد أغرقنا بالحديث عن تفاصيل وأمور حدثت خلال حرب 2014 وحرب 2012 وحرب 2008، وانتهينا بالحديث عن مرحلة ما قبل الانسحاب الإسرائيلي من غزة. هذا الأمر جعلها تقول (وبشكل جدي) إنّنا كغزّيّين بحاجة لحلقة فضفضة جماعية، نتحدث فيها عن كل تلك الأيام. لا لننسى لأنّي أرى ذلك أمراً “غير إنساني”، ولكن كفرصة جيدة لأن نربّت على ندوب القلب، وفرصة جيّدة أيضاً لأن نرعى بذور الحقد والكره لقاتلنا.
الشهداء يعودون
“الشهداء يعودون” تحت هذا الوسم يستذكر الغزّيّون شهداءهم، من ودّع الابن والبنت والأخ والأب والأم والحبيب والصديق والرفيقة. شهداء لم نعرفهم إلا كـ “شهداء”، وهم الأكثر التصاقاً بجدار ذاكرتنا. يعود محمد أبو ديّة ورفقائه منفذي عملية “زيكيم” مع كل قطرة عرق تنسل من جلد مقاوم يدق معولاً في نفق، مع كل لمسة ماء لخصلة شعر مقاوم يتدرب غطساً، يعودون للذاكرة، يعودون لنا بعد أن عادوا وعلى طريقتهم الخاصة إلى البلاد، يعودون للاشتباك، فهؤلاء لا يجيدون شيئًا كما الاشتباك، الاشتباك قبل الموت وبعده، مع العدو واليأس الذي يكوي قلوبنا، الاشتباك الأبدي مع الواقع، نلهج مراراً بأسماء أبطالٍ لم نعرفهم إلّا شهداء لتحتلنا الرعشة التي لا نجيد تفسيرها، نحن هنا، أعني في هذه المدينة، لا نحسن تفسير الأشياء، نعيشها فقط.
إسماعيل وزكريا وعاهد ومحمد بكر يعودون في كل نسمة تهب على هذا الشاطئ الذي تعب من التاريخ والغزاة، في كل مرة نمرّ في مكان استشهادهم، في كل مرة نسمع فيروز تغني “عم يلعبوا الولاد”، نتذكّر أربعة أطفال أوقفهم صاروخ إسرائيلي عن الجري والضحك أوقف مباراتهم للأبد. يعودون ويطرقون جدار الذاكرة ليقولوا وبكل وضوح: “الله لا يريحكم إن بتريحوا قاتلنا/كم”.