الديك الفصيحالعناوين الرئيسية

“إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان” .. غسان أديب المعلم

قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجر، وقلب الحكومة علينا وقلبنا على حجر، ويبدو أنّنا نخون التوصيات والتوجيهات وننكر المعروف ونجحد تضحيات السلطات عبر الإشارة بأصابعنا للفساد والهدر وإنعدام الضمير لدى المسؤولين وغياب القانون الرادع.

فأصابعنا وأكفّنا كشعب لها مآرب أخرى خارج نطاق عملها الاعتيادي، فهناك إصبعٌ مخصّص للبصم بالدماء، وأصابع للتصفيق والتعاضد بالرقص والدبك في أثناء الاحتفالات واستعراضات المسؤولين بالخطابات الرنّانة والمهرجانات المركزيّة والأعراس الوطنيّة، ويجب أن لا نتناسى رفع الأكفّ تضرّعاً للسماوات العُلى على مكارم وتضحيات وعطاءات ونعيم السلطات مع الحمد والشكر على إرسالهم لنا “خصّ نصّ” عن شعوب العالم قاطبةً.

ولو بقي اصبعٌ واحد، فما علينا إلّا الإشارة بالملامة نحو المحتلّين لأراضينا الناهبين لثرواتنا والتذرّع بهم وحدهم لا شريك لهم بحالنا ومآسينا وواقعنا المزري.

غير ذلك يكون النكران والجحود وصولاً إلى الخيانة العظمى.

إقرأ أيضاً .. مشوش أو فيلسوف..

والمتابع لبيانات الخارجيّة السوريّة في الشهر الحالي، أي شهر تشرين الأول، مع سيل الاجتماعات الحكوميّة وقراراتها على  النحو نفسه، وكذلك الأمر مسرحيات التهريج عبر التصريحات التي تُحدث المفاجأة تلو الأخرى بمدى الوقاحة والسخف والرياء، يعلم علم اليقين بأنّ ثمّة تقسيماً ما بين محب، والآخر خائن، كما ذكر وأشار لذلك عدد من المُبدعين المُثقّفين العضويّين السوريّين سابقاً، كالماغوط وعدوان وحنّا مينا، والتي كانت كتاباتهم تعبّر بصراحة ووضوح عن الشرخ البائن والتقسيم في هذا الوطن، وما كنّا يومها نتبنّى النبوءات والحقائق إلّا مع الذعر والخوف ممّا تضمره السلطات لمن تراوده نفسه بالحديث كمثلهم، أو حتى تصديقهم، وعلى الجميع اعتبارهم طوباويّين حالمين أفلاطونيّين لم ولن يدركوا وقائع الأمور ويستدركوا عُمق المنطلقات والشعارات وأهوال المنعطفات التاريخيّة التي تتبجّح بها السلطات ليل نهار..

فالسماء والأراضين ومافوقهما وتحتهما والبحار والأنهار والهواء وغبار الطلع وشذرات الضوء هي للوطن، والوطن لبضعة لصوص بعُرف الماغوط!

وما هذا الوطن إلّا مُقسّماً بين فئةٍ قليلة تنهب وتسرق حتى الكحل في العيون، وأغلبيّة مسحوقة مضطهدة تحمي الوطن بأهدابها رغم كل الظلم بعُرف ممدوح عدوان!

وبُعرف اليوم، فالشعب كذلك الأمر لا ولن يستدرك الحقائق، وأن قلب الحكومات والمسؤولين على هذا الشعب، بل تجاوز ذلك القلب الحنون ليغدو أمميّاً لا مثيل له أو ند.

إقرأ أيضاً .. مسؤول، وبيبرونة، وبامبرز ..

فقلب الخارجية أعرب عن حزنه الشديد وتعاطفه المديد مع ما أصاب دولة كوبا من أعاصير وبراكين وما تسبّبت به حوادث الطبيعة من آلامٍ وجراح عند الشعب الكوبيّ.

وقبل أيّامٍ أعلنت عن غضبها الشديد لتفجير جسر القرم، وطالبت المجتمع الدولي بإدانة الحادث، وبعدها بثلاثة أيّام ورغم التفجير الإرهابي الذي وقع في دمشق ولم تدعُ المجتمع الدولي لإدانته، عبّرت عن أسفها وبالغ أحزانها وغمّها وهمّها وتعاطفها مع الشعب الفنزويليّ بعد ما أصابته السيول وأحدثت في مشاعره خدشاً بالغ الآسى.

وبالطبع، فالخارجية تتناسب عطفاً مع مثيلاتها الداخليّات في شرح أسباب المعاناة طويلاً وتُسهب في شرح المعضلات لعلّنا نفهم وندرك ونعرف حجم التعب والضنك والأثقال التي تحملها السلطات وتتحمّلها لأجل الشعب.

فيأتي الدور على إحدى الوزارات بشرح معضلة ارتفاع الأسعار بمقالٍ يتجاوز الخمسمائة حرف، لا تذكر فيه وصول “المغضوب” لحاجز الخمسة آلاف والحلول، بل تبدأ فيه بتسليط الضوء على مراقبتها لسعر الصرف وبيانات الاستيراد والتصدير وكيفية وصول المادّة للمستورد وانتقالها للموزّع وصولاً للبائع الصغير الذي يخشى من البيع إلّا بحسب ما يرسمه الموزّع من أرقام، وما يفرضه المستورد الكبير.

وتختتم ببيانها بأنها ستلاحق الأمر وتعالج المُصاب الجلل، وبعدها “الكليشة” المُعتادة: غداُ ستشرق الشمس والعصافير تزقزق والسماء صافية و”بكرا أحلى”.

فيا لجحودنا ونكراننا لهذه السلطة الأممية العالميّة التي تحمل هموم الدنيا بأسرها، وقلبها على العالم أجمع، بما أنها محور هذا الكون الذي ابتلاها بهكذا شعب لا يقدّر المعروف.

إقرأ أيضاً .. معاً لترويج (متلازمة المحتال)!! ..

ثمّة فارق كبير بين تفكيرنا وتفكيرهم، وبين محبّتنا لأوطاننا واستغلالهم، وطبقتنا وطبقاتهم، وأمانينا وأمانيهم، فلا هُم منّا ولا نحن منهم، فالتعاطف والتعبير عن الأحزان والمواساة والطبطبة فيما بيننا نحن كشعب، بين من يأكل الخبز مع الشاي، ومنّا من يأكل الخبز مع الماء دون مبالغة، ومنّا من يبيع أثاث منزله لتأمين أساسيات الحياة، ومنّا من يصل الليل بالنهار لتأمين عوز مريضٍ وحاجة قاصرٍ ضعيف، ومنّا من يبيع الأرض أو المنزل أو السيارة لإرسال فلذات كبده ولو عبر قوارب الموت لأجل النجاة من هذا الجحيم، ومنّا من قدّم الدم والشهيد، ومنّا الصابرون المُحتسبون الكاظمون الغيظ المُتعالون المُكابرون على كلّ هذه الجراح من الظلم والإهمال والاستغباء والاستعلاء لأجل الوطن لا سواه..

ومنّا الكثير من يعلم بما وراء الأكمة، فزيادة الرواتب وما قبلها من حركاتٍ وتصريحات وأفعالٍ ريثما يصل الأنين حدود السماء السابعة وبعدها تأتي النجدة من المسيح المُخلّص، وتبدأ جوقة اللواعق والعلوج بالمباركة بمكرمة إبر التخدير وتسكين الآلام، حركة باتت معروفة بسبب التكرار..

والحلّ في موضعٍ بعيد عن هذه المسرحيّات، فلن تنفع أيّ زيادة في الأجور بحلّ المشكلة، ولا أي قراراتٍ وتوصيات وتوجيهات جديدة وتغيير في “الطرابيش” وفق هذه الآلية، ولن تسمن أو تغني عن جوع، ولا حلّ إلّا بإمساكٍ بمعروف عبر دولة مؤسسات وقانون ومواطنة حقيقية، أو تسريحٍ بإحسان لأحد الطرفين والفئتين والطبقتين التي تقسّم بهما الوطن بين محبّ وخائن، ومن الطبيعي جداً أن يكون الشعب هو المحبّ لوطنه، والباقي خونة..

 

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى