إضاءاتالعناوين الرئيسية
فول بلبن … د.محمد عامر المارديني

إلى السّوق انطلق صاحبُنا صباحَ الجمعة ليشتريَ الفولَ المدمّسَ والخبزَ المشروح مع المخلّل والبصلِ الأخضر والفجل استعداداً للفطور الّذي يجمعُ العائلةَ كلَّ يومِ جمعة.
وما إن حفلَت المائدةُ بالأطايب وبدأ صاحبنا بقضمِ أوّل لقمة فول حتّى شعر بصوتِ تحطُّمٍ فمويٍّ يُنبئُ عن كسرٍ ما فهُرعَ راكضاً إلى صنبور الماء يتمضمضُ ليرى فتاتِ حجرٍ صغير كان قد قرطَه مع الفول تتساقطُ في المغسلة.
نظرَ في المرآة وهو يتأوّه من الألم متفحّصاً أضراسَه واحداً تلوَ الآخر ليكتشفَ تهدُّمَ أحدِها فما كان منه إلّا أن أخذ يسبُّ ويلعنُ ويشتمُ بائعَ الفول مستخدِماً كلماتٍ نابيةً جعلت جميع الجالسين إلى المائدة من أفراد عائلتِه يصابون بالدهشة والحيرة من دون أن يعرفوا سبباً لتصرُّفِه هذا.
فول بلبن
فول بلبن
على الفور انتعل صاحبُنا حذاءَه وهو في قمّةِ الفوران والغضب ثمَّ خطف صحنَ الفول من أيدي أفرادِ عائلته وغادرَ البيتَ دون أن يخبر أحداً بما ينوي فِعلَه وهو يضغطُ بكفِّه على خدِّه من شدّة الألمِ مبربراً بكلمات غيرِ مفهومة.
وصل صاحبُنا إلى دكّانِ بائع الفولِ ،فلاحظَ عند شرفة البيع عشراتٍ من الرّجال والنساء والأولاد، يتدافعون لابتياع الفول فصرخ ينادي البائع:
الله لا يوفقك يا مجرم ! لقد تحطَّم أحدُ أضراسي نتيجةَ بيعِك الفولَ غيرَ المنقّى من البحص!
وما هِي إلا ثوانٍ حتّى بدأت عباراتُ التهكُّم تنهالُ عليه من كلّ حدبٍ وصوبٍ :
– ما شاء اللّه على أسنانِك اللؤلؤيّة ، والله معك الحقّ أن تحزنَ عليها.. ويردّ عليه صاحبُنا: اخرس، وإلا قطعتُ لسانَك، فيصرخ أحدُهم : كلّ الحقّ عليك كان عليكَ أن تفحصَ الفولَ قبل تتبيلِه ، فيقول له صاحبنا: احتفظ بنصائحِك لنفسِك ، وإلّا علّمتُك كيف تتكلّم. وفي اللحظةِ نفسِها يقول له شابٌ بطول المترين مكتنزُ العضلات: قل الحمد لله أن انكسرَ ضرسُك وليس رأسَك ، فينظر إليه صاحبُنا شذراً دون أن ينبسَ ببنتِ شفة. أمّا السيّدة المسنَّةُ المنقّبةُ التي كانت تنتظرُ دورَها للشراء فقالت: يا ليتك أعددتَ الفول بالحمض والثوم والزيت لكانتِ البحصةُ قد بانت فارقةً عن الفول، فقال لها صاحبنا: أرجوكِ يا حجّة.. احتفظي بنصيحتك لنفسك، إلى أن نادى أحدهم البائعَ قائلاً: أرجوك أعِد له النقودَ التي دفعها ثمناً للفول ودعه يفارقْنا.. لقد تأخّرنا.
فول بلبن
فول بلبن
توقّف البيعُ للحظاتٍ وقد بدا أنّ ثمّةَ هرجاً ومرجاً قد غصًّ بالمكان ، وعلا الصّراخُ في الأرجاء فلم يعد في الإمكان سماعُ أيِّ حديث بعد أن بدأ عراكٌ بالأيدي بين المكسورِ ضرسُه وبين بعض الثرثارين ثمّ ما لبثت أن اتّسَعت حلبةُ الملاكمة والمصارعة لتشملَ معظمَ الواقفين عند شرفة محلّ بائعِ الفول الذي قام فأرخى ستارَ الشرفة معلناً انتهاءَ البيع.
في هذه الأثناء حضر شرطيُّ سير كان يقفُ بالقرب من دكانِ الفول يستفسر عن سببِ التجمّع والصراخ فنادى: ماذا هناك يا شباب؟؟ لمَ الصراخ؟؟
قال أحدهم: والله لا نعلم يا عمّي الشرطي.. لكن على الأغلب أنّ أحد الواقفين اتّهم بائع الفول بغشٌّ الفول بالمرق الزائد.
قال الثاني: لا.. أبداً يا عم.. بائع الفول لكمَ أحد المشترين من داخل شرفةِ المحلّ فكسر له أسنانَه الأمامية.
قال الثالث: أعوذ بالله، أنا شاهدت بأم عيني ما حدث.. اثنان من الواقفين هنا تقاتلا، كل منهما يريد ابتياعَ الفول قبل الآخر فكُسِرَت أضراسُ الأول إثر لكمةِ من الثاني بعدما فقأَ الأول عينَ الثاني بشحّاطته مباشرة على وجهِه.
وعلى الفور انتفض الشرطيّ فتناول جهازَ اللاسلكي خاصّتَه يتحدّث مع قسم الشرطة فحضر أربعةٌ منهم على الفور وفرّقوا المجتمعين من أمام محلِ الفول ، وجلسوا بصحبة شرطيِّ السير المبلِّغ عن الحادثة إلى طاولة وُضِعت لهم في الشارع وأُحْضِرَ لهم الفولُ المتبَّل بالحمض والثوم والزيت و آخرُ باللبن ،وزبديةُ فتةٍ بالسمن وأخرى بالزيت مع صحن المخلَّل والبصل والفجل.
فول بلبن
فول بلبن
اقترب صاحبنا من المائدة الغاصّة بالأطايب وهو يبكي من شدّة الألم داعياً العناصرَ إلى محاسبةِ بائع الفول المسؤول عن تحطُّم ضرسه الذي يكلّفُ إصلاحُه مبلغاً كبيراً من المال لا طاقةَ له به.
قالوا له بتهكّم : كفاك نحيباً ودموعاً يا هذا ، الرّجال لا يبكون ! احمد ربّكَ أن ذلك البائع الآدميّ طيبَ القلب لم يشتكِ عليك لما سببتَه برعونتك من عراك بين الواقفين أمام شرفة حانوته، الأمر الذي أرغمه على إغلاقه.
نصيحتنا إليك أن تهرب من هنا قبل أن نُضطَرَّ للقبض عليك إذا علم أنك هنا.
وما إن غادر صاحبُنا المكان حتّى أخذ الفاطرون ينظر بعضهم إلى بعض ، ثم وبلحظة واحدة شقَّت أصواتُ ضحكاتهم عنانَ السماء وهم ينادون بائعَ الفول أن يسرعَ إليهم بأكواب الشاي مع النعناع لتسهيلِ عمليةِ هضم الطعام الذي ملأ البطون ، ثم ارتخوا على كراسيّهم يحرسون المكان درءاً لتجدّد الفتنة.
.
*أديب كاتب .. وزير التعليم العالي السابق- سوريا
-لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews/