رأي

الدولة .. الدين .. العلمانية .. وخالد العبود .. بقلم يزيد جرجوس ..

 

في بداية إطلالتي على المسألة العلمانية من نافذة السجال الفكري وغير الفكري الذي نشب على وسائل التواصل بين السوريين كعادتهم خلال السنوات العجاف الماضية، لا بد لي من تسجيل ملاحظة وأعطيها دور الدليل في بحثي المكثف هنا عن الموضوع الشائك الذي يشغل بال الكثيرين، لا بل ويؤرق راحتهم أيضا، بين من هم مع ومن هم ضد، علماً بأن المسألة تبدو مُرهَقَة بمثل هذه المقاربات المجتزأة منها، كونها نظرية إنسانية بقدر ما هي علمية تأخذ لها حيزاً موضوعياً في علوم النفس والاجتماع والسياسة والانتروبولوجيا، ومن الظلم بمكان الاقتراب منها بصيغة “الصح/خطأ” أو ثنائية التفكير “أبيض/أسود”.

ملاحظتي ضمن سياق هذه الأفكار الأخيرة هي اندهاشي من طرق الطرح المتعالية والإقصائية التي يستخدمها رهط من “العلمانيين” في تعاطيهم مع طروحات من يحسبونه “راكباً في مركب غير زورقهم العلماني”، فالمدهش فعلاً أن يقوم الممتعض من أحادية الرأي عند المتعصبين دينياً، باستخدام أحادية الرأي في مواجهتهم، إذ ما فتئ “العلمانيون” يطرحون “الحل” بصفته “واحداً لا بديل عنه” وهو يتمثل بطرحهم هم عن “العلمانية” ووصفها بأنها “فصل للدين عن الدولة“، غير قابلين لأي طرح آخر حتى ولو كان يميل قليلاً عن رأيهم ولا ينافيه بالضرورة، إن هذا المنطق في التعاطي يقترب كثيراً من أن يشكل انعكاساً أيديولوجياً عن منطق المتعصبين دينيا، فهو يتشارك معه الآلية والأحادية والشكل، ولكن يختلف بالاتجاه تماماً كما يختلف الظل مع صاحبه في الجهة برغم نشأتهما من نفس النقطة.

 

ما كتبه الأستاذ خالد العبود لن يأخذ حيزاً طويلاً من الطرح هنا، كونه كان واضحاً ومختصراً برغم تعرضه للاجتزاء والتوجيه من قبل المنتقدين، الذين على الأغلب لم يكونوا يوجهون نقدهم للرجل أو لمنشوره، بقدر ما كانوا يعبرون عن مخاوفهم وهواجسهم المشروعة حيال مستقبل المجتمع والدولة السوريين، وشكل هذا المستقبل ضمن أطر عمل الدولة التي تبدو بصورة منطقية اللاعب الأقوى في رسم ووضع شكل بنية هذا المجتمع والعلاقات ضمنه على الصعيد الداخلي أقله.

فتوجس الناس من سيطرة الرأي الأحادي، أو محاولات فرضه، لا شك أنه مفهوم وكثيراً ما يكون محقاً، خاصة عندما تتم استثارتهم بطريقة ناجحة عن طريق استخدام كلام لشخص وُضِعَ في إطار مسبق كمُنَظِّر أو “مُرَوِّج” لأفكار ومشاريع السلطة السياسية، وهذا ليس توصيفه الدقيق بالنسبة لي، ولكني أنقل بعضاً من التصورات الدارجة مؤكداً أنه ليس كل دارج صحيح.

 

إن أهم ما جاء في كلام العبود برأيي هو نقطتين، الأولى هي اعترافه وتصالحه مع الواقع وهذا أمر لا يمكن تجاوزه في التنظير السياسي أو في صناعة القرار، فالنظرية السياسية والإدارية التي لا تنبع من مفردات الواقع لا يمكنها التعاطي معه بنجاح، وهذا بدوره لا يَجُبُّ دورها التنويري والريادي في قيادة المجتمع نحو الأفضل، فالتعاطي بواقعية لا يعني بحالٍ من الأحوال الاستسلام له، ولكن عدم القفز فوقه، أما النقطة الثانية فهي طرحه لمعادلة مفهوم الدين الواحد وأقتبس: “علماً أننا لا نعتبر أن هناك دينان بهذا المعنى، وإنما هناك دين واحد بملتين وأكثر، وهنا يكون الدين واحداً بملتين إسلامية ومسيحية”.

هذا الطرح يبدو مطابقاً لطرح المفكر والمنظر السوري الكبير أنطون سعادة في كتابه ذائع الصّيت “الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية”.

 

مفاهيم ومصطلحات ..

“العِلمانية” بكسر العين (من العلم) هي الإنطلاق في الموقف من الحياة وقضاياها من على أرضية العلم أو ما يمكن تسميته بالإيمان بالعلم، وهنا أسجل مباشرة ملاحظتي حول التسمية لأن العلم لا ينطوي على “إيمان” ولكن على المعرفة، فأن تكون عِلمانيا يعني أن تبحث في المعطيات والنظريات والفرضيات والأبحاث العلمية لتعرف أكثر ولتتخذ لك توجهاً أو موقفاً من هذه القضية أو تلك، أن تسعى لمعرفة الواقع الأرقام النتائج الإحصاءات..الخ حتى تتبين الدوافع الأسباب المآلات..الخ فتعرف كيف ستتصرف، أي أنك تعتقد بأن العلم يحمل لك الإجابات.

“العَلمانية” بفتح العين (من العالم) هي موضوع بحثنا هنا، وهي ما قيل فيه أنه “فصل الدين عن الدولة” وهذا العنوان التعريفي الموجه، إضافة لأنه كان نتاج تجربة اجتماعسياسية محددة بالزمان والمكان والشريحة الاجتماعية، فهو أيضا جاء تعبيرا عن ظرف تاريخي محدد له معطياته المعلومة، وهنا نتحدث عن تجربة القارة الأوروبية بشطرها الغربي تحديداً، ومسألة سلطة الكنيسة وحركة المجتمع التحررية وأدوار النهضة والثورة الصناعية، وتحول كل ذلك في أحد تجلياته الكبيرة إلى حرب عظيمة هدفت للسيطرة ليس على أوروبا وحدها ولكن على العالم فيما عرف بالاستعمار القديم أو الكلاسيكي.

إن هذا التعريف “فصل الدين عن الدولة” يبدو ملتبساً بعض الشيء، وهو بالتأكيد لا يعطي الانطباع المريح المطلوب عند المؤمنين والمحافظين دينياً، مما سيدفعهم للتشدد في مواجهته لأنه لا يعطي بصياغته تلك التطمينات والمساحات، بقدر ما يوحي بالإقصاء، فالمتدين يرى أن دينه “هو الحل” تماماً كما يعتقد “العلماني” بعلمانيته، لا بل وبمزيد من الثقة والحب، فكيف يمكن إهمال ذلك عند التعاطي مع المسألة!؟.

كما أنه من النواحي الإجرائية وفي واقع المجتمعات كدول، تتداخل الكثير من الأمور والقيم مع النظام العام وترتيباته، ليختلف توصيفها حسب زاوية وتوقيت الإطلالة عليها، وليصبح الفصل فيها وبينها أمراً لا تصح فيه ثنائية اللونين (أبيض/أسود) ولكن طيف تدرج الألوان والمراحل والترتيبات، فإعطاء مقعد أو أكثر في مؤسسة ما في دولة ما لطائفة معينة للحفاظ على دورها وحالتها النفسية الاجتماعية، يبدو سلوكا “طائفياً” في مجتمع لا ديني متحرر من التعصب، بينما يظهر كسلوك علماني في دولة مجتمع محافظ دينيا، فالحكم على هذا السلوك يجب أن ينطلق من سياقه العام مع مراعاة التفاصيل المتعلقة فيه.

“حرية المعتقد” هي ضمان حق الإنسان في أن يعتقد ويؤمن بما يشاء، طبعاً دون أن يشكل ذلك خطراً على المنظومة والمجتمع، فحتى هذا المفهوم هو نسبي ومتحرك من حيزٍ إلى آخر تبعاً للمعطيات. فهل يتعارض ذلك مع الدين؟!.

إن الإنطلاقة الموضوعية للأديان بشقها الاعتقادي وليس الوظيفي، وحتى تحتفظ بقدرتها الاستقطابية، لا بد أن ترتكز على قيمة “حرية الاعتقاد”، وبما أننا نتحدث عن المجتمع العربي، وحتى لا أخرج عما أكدت عليه أعلاه من ضرورة التفهم والبحث في السياق، فسآخذ موقف كل من المسيحية والإسلام من المفهوم، لننتقل لإمكانية تقبل الدين الموجود في مجتمعنا نحن له.

المسيح قال وبشكل بالغ الوضوح “أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا لمن أساء إليكم”، وقال أيضا فيما هو أكثر تخصصا في هذه النقطة تحديداً “من ليس ضدي فهو معي”.

القرآن قال أيضاً وبشكل واضح وأكثر تحديداً هنا “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.

وحتى لا يرد على هذه النقطة تحديداً نفرٌ من المتعصبين دينياً ويُقَوِّل النص ما يريد كما اعتاد المتعصبون، وحتى لا يُقال أن هذا “لا ينفي العقوبة عند الله” وهذه مقولة يتم الانتقال منها إلى “حق المؤمنين بتنفيذ هذه العقوبة”، حيث يبدأ من هنا تحديداً تطور الإرهاب .. فإني سأورد آية عالية الدلالة والمحتوى الإنساني والفكري أيضاً، ليس فقط ليتعرف عليها غير المؤمنين، ولكن ليتبناها أيضاً المؤمنون، تقول الآية في رد من “الله” على محمد بخصوص غير المؤمنين “وقيله يا رب إن هؤلاء قومٌ لا يُؤمِنون، فاصفح عنهم وقُل سلامٌ فسوفَ يعلمون” (الزخرف 88-89) هنا يتوعد النص غير المؤمن بالمعرفة، وما أجمله من وعد.

ضمن هذه السياقات المعرفية الفكرية، أعتقد أنه يمكنني تعريف العلمانية بأنها ليست إلغاء للدين من الحياة العامة، (خاصة وهو حامل موضوعي للكثير من القيم والمحددات)، ولكنها سعي لتكريس مبدأ عدم التمييز بين المواطنين بناء على انتمائهم الديني، أو حتى اللاديني أيضا.

 

في قواميس السياسة والاجتماع السياسي لا نستخدم التعابير القطعية، فنحن نبحر في غمار العلوم الإنسانية، وهذه تجميعية نستخدم فيها مفاهيم الصيرورة مثل “السعي لتكريس” و”محاولة تحسين” و”التوجه لتحصين”..الخ، ولا نستخدم تعابيرمثل “فصل” أو “ألغاء”.. فالمسألة يجب أن تتخذ لها مسافة مريحة عن الادعاء بالحل “الوحيد النهائي”، ففي المجتمع ليس هناك حل نهائي.

إن الطروحات الدارجة للبعض عن العَلمانية وفق ثنائية (أبيض/أسود) مع كمية من التعالي والرفض، لا تشكل سوى خنجراً في ظهر العلمانية من جهة، كما أنها المادة الأساس التي ينطلق منها المتعصبون دينيا في رفضهم للعلمانية مدفوعين باستفزاز “العلمانيين” وتهجمهم عليهم وعلى دينهم، دون إهمال هؤلاء “المتدينين” الذين يستخدمون ذلك استخداماً ولا يكونون ضحية له.

من مصلحة الجميع كما أعتقد ليس طرح العلمانية فقط، ولكن ممارستها أيضاً، وهنا بيت القصيد في توكيدي على مسألة الرفض والتعالي، فالعلمانية تَفَهُّم وقَبول بالدرجة الأولى، وهي جامعة متقلبة متنوعة تراكمية.

 

كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى