جُرَيْدَه … د.محمد عامر المارديني

كان ناقماً على كلِّ شيءٍ من حوله، كلامُه فظٌّ، هوايته الدائمة الانتقادُ والتذمُّر، ونشرُ السلبيّةِ و الإحباط أينما حلَّ أو وُجِد، يسبّ ويشتمُ على الدّوام، ولا يستمعُ إلى نصيحة أحدٍ في التّخفيفِ من نيرانِ عباراته وملافظه، إلى أن بدأ أصدقاؤُه ينسحبونَ من صحبتِه واحداً تلوَ الآخر خشيةَ أن يتفوّهَ في حضرتِهم بما لا يروقُ المُترَصِّدين!
كان غالباً ما يحوّلُ النقاشَ إلى صراخٍ مملوءٍ قدحاً وذمّاً، ما يجعلُ المجتمعين يودّعون بعضَهم، وخاصة بوجود بعضِ الأغْراب، متعلّلين بارتباط على عشاءٍ أو غداء أو شأنٍ عائليّ، أو وعكة صحيّة لقريب.
وكثيراً ما كان ذلك الساخط الغاضب يتّصلُ بأصدقائه يدعوهم لتناولِ العشاء في مكان ما، لكنّ الجميعَ كان يعتذر، إلى أن شعرَ أخيراً بأنّه أصبح شخصاً غيرَ مرغوب فيه، وبدأ الاكتئابُ يتسللُ إلى نفسه حتى كاد يقضي عليه.
في أحد الأيّام اتصل بصديقٍ ليشرحَ له أنّه مريض جداً وفي حالٍ يرثى لها، يعاني من الاكتئاب لانفضاض أصحابِه عنه، ويريد إعادةَ التواصلِ مع الجميع راجياً منهم أن يبحثوا له عن علاج لفظاظته وسوءِ لسانه، فيتخلّص ممّا أبعدَ عنه زوجتَه وأولاده، والأقربين والأبعدين على حدٍّ سواء!
قال له الصديق: حسناً.. ها قد عرفتَ مشكلتَك بنفسك وشخّصتَ علّتَك، ونحن نحبُّك ونبغي مساعدتَك، لا تقلق سأجتمع بالأصدقاء علّنا نجدُ لك الحلّ. وبالفعل، جلس الأصدقاء معاً يطرحون حلولاً، لكنّ معظمَها كان غيرَ منطقيّ ولا مُجدياً، إلى أنْ صرخَ أحدُهم: وجدتها وجدتُهاااا!
قالوا له: وما هو يا أرخميدس عصرِك؟ قال: لا لا أعذروني فلن أبوحَ بشيء الآن إلى أن أنتهيَ من تنفيذ خطّتي، فإن نجحَت شرحتُ لكم ما فعلتُ، وإن لا، فسأعتذرُ منكم. قالوا له: موافقون.. افعل ما تريد، وإن سألناكَ عن شيء بعدَها فلا تصاحبنا. قال لهم: طيب، أرى أولاً أن نصعد جميعُنا صباحَ الغد مع صاحبنا المتذمِّر إلى تلك الهضبة التي كنّا نأتيها بين الحين والآخر أثناء دراستنا الجامعية. قالوا: ماذا؟ ما هذا الهراء؟ تأخذنا عشراتِ الكيلومترات! لماذا؟ قال: صبراً أيا أصدقاء أرجوكم أن تدَعوني أنفّذ ما في رأسي.
ذهب الجميع بعد بزوغ الشمس يرتدون ألبسةً رياضية إلى أن وصلوا الهضبة قرب أحد حقول نباتِ الحمُّص فنصبوا هناك خيمةً يستريحون داخلها بعد ممارستِهم رياضةَ المشي. كان المنظر بديعاً، والهواءُ منعشاً، والطيور والعصافير تبحث عن أقواتها، والخرفان والماعز بصحبة رعيانِهم ترعى في السفوح القريبة. قال لهم صاحب الفكرة: ما رأيكم أن نقومَ الآن ونقطف سيقانَ الحمُّص ونشويَها على نار خشب السنديان؟؟.. إنها أكلةٌ شعبية رائعة يعرفها الجميع في هذه المناطق الجبلية الجميلة ، أكلة تدعى جُرَيْدَه.
تململَ الجميع مستغربين الاقتراحَ ثم قالوا بصوت واحد: وهل لذلك علاقةٌ بصاحبنا طويل اللسان؟ قال لهم: ألا تصبرون عليَّ أحبَّتي؟ وبالفعل التفَّ الجميع حول الجمر الذي أوقِد لهذه الغاية، ثم وضعوا عليه سيقانَ الحمُّص الذي أخذ ينضجُ بهدوء، ثم تركوا النار تنطفئُ من ذاتها ليبدؤوا بعد ذلك تناولَ الحمُّص المشوي الذي يبدو بعد نضجه ككرات صغيرةٍ سوداءَ تُفرَكُ باليد ثم تُقضَمُ فتعطي طعماً طيباً.
كانت جلسةً رائعة سُرَّ بها الأصحاب تخلّلها شربُ القهوة المُرَّة. وفي طرفة عين استطاع صاحب فكرة الرحلة جمعَ بعضٍ من رَوث الأغنامِ السوداء دائريةِ الشكل التي كانت ترعى في ذلك المكان ثم قذف بها في النار في الجانب الذي يجلس فيه ذلك الثرثارُ المتذمّرُ دون أن ينتبه.
تلذّذ الجميع بتناولِ تلك الأكلة التي تسمى جُرَيْدَه لكنّ صاحبَنا لم يكن ينتبهُ أنّه يأكلُ الزبل المشويَّ ظناً منه أنه حمُّصٌ لكنّه جاملَ البقية عندما سألوه عن النكهة الطيبة للحمُّص فقال لهم مكشِّراً: الله الله ما أطيبَها، خوفاً أن يبديَ لهم الامتعاضَ من طعمها الكريه فيعودوا لطرده مجدّداً.
مضت ساعةٌ انتهت معها جلسةُ تناولِ الجُرَيْدَه ليقومَ الجميع استعداداً للمغادرة وينظروا إلى الصديق المكتئب. ولم تمضِ دقائقُ حتى انفرجت أساريرُ ذلك الحاقدِ المبغض بعد أن أكلَ ما أكل، وبدأت طراوة لسانه تأخذُ بالألباب، فأخذ يمدح هذا ويثني على ذاك، لائماً نفسَه على تلك الأيام التي قضاها يثرثرُ وينقمُ ويتذمّر. نظر الجميعُ إلى صاحب الفكرة مدهوشين ممّا حصل فابتسم لهم رافعاً إبهامَه علامةَ نجاحِ المَهمّة.
.
*أديب قاص وروائي- وزير التعليم العالي السابق.. سوريا
.
لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews