رأي

حرب الأخلاق الخاسرة .. محمد سعيد حمادة ..

حرب الأخلاق الخاسرة ..

لا تحتاج الوطنيّة إلى إيعاز من أحد، ولا تحتاج نُصرة الوطن في ملمّاته إلى قرارات مركزيّة؛ لكنّ القرارات الجائرة والإيعازات الفوقيّة تدمّر روح الحماس عمومًا وتغرس بدلاً عنها روح الحياد المؤلمة المبنيّة على الخوف والتوجّس والحسابات والهواجس المرعبة.

أبدأ بهذه الكلمات والعدوّ التركيّ المحتلّ على الأبواب يهدّد باحتلالات جديدة، في وقت بدأت ترتفع فيه أصوات تطالب المثقفين وأصحاب الرأي برفع صوتهم للحشد بوجه التهديدات التركيّة القادمة من الشمال وأختها في الرضاعة الأميركية القادمة من الجنوب وقد أطلق تباشيرها الحاكم الأردنيّ.

إنّ الموقف الطبيعيّ من التهديدات التركيّة وغيرها هو محاربتها والوقوف ضدّها وإعلان موقف صارم حاسم بوجهها لأنّ هذا الموقف هو أخلاقيّ قبل كلّ شيء، فالوطنيّة أخلاق، لكنّ هذه الأخلاق عامّة وشاملة وليست استنسابيّة، بمعنى أنّ الوطنيّ وطنيّ إن كان في موقف الهجوم على العملاء والانفصاليين والمحتلّين أو في موقف اتّخاذ الموقف أو الهجوم على الفاسدين أو من يراهم مقاولين لبيع وطنه على مراحل أو دفعات. فلا يمكن في لحظة رخاء عابرة أن توجّه أسهم التخوين إلى أصحاب الرأي لمجرّد وقوفهم ضدّ قرار هنا أو مرسوم هناك يعتقد بعضهم بأنّه تدمير بعيد المدى للوطن وعقده الاجتماعيّ فيصبحون مرتبطين بالخارج وينفّذون أجندة عدوّة لمجرّد اختلافهم مع السلطة، فيصمتون مجبرين؛ وعندما يتهدّد الخطرُ الجميعَ يُطالبون بفكّ عزلة صمتهم ويُخوّنون لأنّهم صامتون.

ليس ما ورد أعلاه دعوة للصمت تجاه ما يتهدّد بلدنا، لكنّه تذكير لمن يعتقدون أنّهم يملكون حقيقة كلّ المسائل والقضايا ويوزّعون شهادات الوطنيّة والاتّهامات يُمنةً ويُسرةً في وقت هدوء العاصفة ويطالبون عند اشتدادها من خوّنوهم واتّهموهم وتنمّروا عليهم بأن يخرجوا عن صمتهم القهريّ. فمن اللاأخلاق أن تُجزّء الأخلاق الوطنيّة، ذلك أنّ كلّ موقف أو خطّة سياسيّة أو حربيّة إن لم تكن الأخلاق روحها فهي فاشلة مهما كانت محكمة.

أذكّر هنا بما قاله المفكّر السوريّ الكبير أنطون سعاده لعلّ الذكرى تنفعنا في مقبلات الأيّام، وقد عرفنا أنّ حربنا طويلة مذ بدأت، ” كلّ نظام يحتاج إلى الأخلاق. بل إنّ الأخلاق هي في صميم كلّ نظام يمكن أن يُكتب له أن يبقى.” وهذه ليست موجهة ضدّ من يعتقدون أنّها موجّهة لهم، بل هي من أجل استمرار الجميع في الوطن.

فكيف يمكن لبيروقراطيّ، في لحظة رخاء عابرة (مجدّدًا) ومزيّفة، أن يصف مثقّفًا يكتب عن الجيش والشعب والقائد أنّه منافق وشبع نفاقًا ويطلب منه في لحظة اشتداد المحنة الوطنيّة أن يكون صوتًا مدويًّا في وطنه؟ كيف يمكن إقناع من توضع له تهمة جاهزة تسجنه إلى ما شاء قانون الجرائم الألكترونيّة بأنّه شريك في الدفاع عن وطنه؟ كيف يمكن أن يكون من كتب، في لحظة استياء أو غضب أو..، عن عجز دولة كاملة في تنظيم توزيع الخبز لسنتين واتُّهم بأقذع التهم، جنديًّا يلبّي الواجب الوطنيّ على جميع الجبهات؟

أنا شخصيًّا كنت أودّ الكتابة منذ فترة طويلة عن أولئك الذين يروّجون لفكرة أنّ الحرب انتهت وعلى الجميع الانصياع لقرارات فترة السِّلم الحكيمة في وقت تتربّص فيه الضباع سوريا من جميع جهاتها، وما يقارب ثلث أراضيها أو يزيد واقع تحت احتلالات مختلفة متّفقة، وكأنّنا في لبنان بعد سنة تسعين من القرن الماضي وقد بدأ الترويج إلى أنّ الحرب ولّت في وقت كان فيه الكيان الصهيونيّ ما يزال محتلّاً جنوب لبنان. كنت أودّ الكتابة مستفيضًا عن هذا الأمر وأحجمتُ لحسابات خوف وتوجّس، يعلم الله كم عانيت اليوم لأبقّ بحصّة منها.

إنّ أخطر ما في هذه الحرب على بلدنا هو تحييد المجتمع، وقد بدأنا نرى خيبته وانكفاءه وحياده تجاه المسألة الوطنيّة، ولا بدّ أنّ هناك من صنعها بدراية وخبرة لنخسر الحرب في النفوس قبل خسارتها أو ربحها في الواقع، وهذا هو الأساس الذي بُنيت عليه كلّ اللاأخلاقيّة الرعناء في إدارة المسائل الداخليّة.

أخيرًا، أستعير ما أورده الدكتور اليان مسعد، المنسّق العامّ لهيئة العمل الوطنيّ والجبهة الديموقراطيّة العلمانيّة، من قولٍ للمفكّر عصمت سيف الدولة، على صفحته في فيسبوك أمس:

” “لا يُمكن أن يُطلب من طرف واحد أن يدفع ثمن الوحدة الوطنية ويتحمّل أعباءها، بينما الطرف أو الأطراف الأخرى لا تلتزم إلاّ بأهدافها الخاصّة، وإلاّ فإنّ الدعوة إلى الوحدة الوطنية والمحبّة والسلام وعدم الحقد تكون في النهاية موجّهة إلى المظلومين ليقبلوا بوضعهم المتدنّي ويحبّوا ظالميهم ويُهادنوا مستغلّيهم أو ليكونوا ملائكةً مطهّرين من عواطف الغضب والكراهية وهذا مستحيل.”

*كاتب وإعلامي – سوريا

 

صفحتنا على فيس بوك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى