الشهيدة شيرين: أول الرصاص .. بشار جرار – واشنطن ..

هل تكون الرصاصة التي أردت شيرين أبو عاقلة شهيدة على تخوم مخيم جنين شمال الضفة الغربية أولى رصاصات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة؟ أم تراها طلقة أخطأت هدفها فأصابت المراسلة الميدانية الفذة؟ أي خطأ هذا الذي ينتصف المسافة بين أذن سمعت وعقل أبدع وعنق حملت الأمانة المهنية والوطنية والإنسانية ربع قرن؟ كم أدمت ذاكرتنا المهنية تحقيقات لم تصل إلى خلاصات وإدانات باردة فترت قبل أن تفتر ونادرا قبل أن تجف دماء الضحية. في الوسط الفلسطيني الصحافي وحده، حلت شيرين الأولى في تميزها، حلت في المنزلة السادسة والخمسين من حيث قوافل شهداء الواجب، شهداء الوطن من الصحافيين الفلسطينيين.
أعلم تماما ويقينا حساسية الموضوعية في التعامل مع هذه الكارثة. لكن الواجب الأخلاقي قبل الصحافي يحتم على كل من تصدى للعمل العام وللاشتغال بالرأي العام والصالح العام أن يتعامل مع القضية بمهنية تكسبها مزيدا من التعاطف حتى لا يضيع حق شيرين التلحمية المقدسية الفلسطينية. لو كانت شيرين بيننا في تغطية لكارثة بهذا الحجم لما ترددت في ملاحقة القاتل أيا كان وبأي ذريعة كانت. التحقيق الصحافي كالأمني كالطبي (الطب الشرعي) لا يجوز أبدا أن ينطلق من اعتقادات أو افتراضات، بل من شهادات، ومعاينات، وأدلة، وقرائن. وقد أحسنت نقابة الصحافيين الفلسطينيين صنعا بطلب التشريح فيما جانب الصواب في رأيي السلطة الفلسطينية في رفض التحقيق الأمني المشترك مع الإسرائيليين فهم شركاؤها فيما هو أكثر حساسية وهو التنسيق الأمني والاستخباري المعلوم لدى الجميع. ربما كان من المفيد الطلب من مكتب التحقيقات الفدرالي إف بي آي الكشف عن قاتل المواطنة الأمريكية شيرين، والطلب من جهات تنفيذية وحقوقية أمريكية -حكومية وخاصة- استخدام صلاتها لدى إسرائيل في الضغط على حكومة نفتالي بينيت وهي عمليا تحت رحمة ائتلاف عربي إسرائيلي يقوده إسلامي من الإخوان المسلمين وإن قالوا إنه ما عاد يمثل تيارهم كما تمثله حماس! لا بد من البناء على التعاطف غير المسبوق الذي تضمنته بيانات وتصريحات رسمية صادرة عن الخارجية الأميركية والسفارة الأمريكية في إسرائيل. منظمة ك”اللجنة الدولية لحماية الصحافيين” (سي بي جيه) ومقرها نيويورك تمتلك صلات قوية مع قناة الجزيرة ومنظمة بيتسيليم الحقوقية الإسرائيلية التي يقال إن فيديوهات بحوزتها كشفت جوانب مهمة للتحقيقات الجارية حتى في صفوف الجيش الإسرائيلي الذي يبدو أن يعد العدة لمواجهة الرأي العام في حال تراجع فرضيته بأن الرصاصة طائشة من الجانب الفلسطيني وثبوت بالطب الشرعي الجنائي أن المقذوف القاتل انطلق من بندقية قناص في صفوف وحدة المستعربين المتخصصة بعمليات الملاحقة والخطف والاعتقال للمطلوبين في قضايا كتلك التي تسببت بمقتل إسرائيليين في هجمات شهدتها مؤخرا مناطق عدة في العمق الإسرائيلي فيما وراء خطوط ما قبل الخامس من حزيران عام ١٩٦٧.
في حال “لفلفة” قضية شيرين سيصب سياسي أحمق النار على بيئة قابلة للاشتعال جراء حالة الجمود السياسي وانعدام الأفق لأي حل سيما بعد كل ما قيل منذ رحيل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وصفقة القرن الخاصة بإدارته. هي فرصة إذن أمام سلفه جو بايدن الذي ينوي زيارة القدس الشرقية ولن يكون أمامه خيار تفادي سؤال على الأقل من زملاء شيرين عن تسليم قاتلها للعدالة الأمريكية وليس فقط الفلسطينية وحتى الإسرائيلية. إن ثبت أن القاتل قناص من المستعربين فثمة رؤوس أمنية وعسكرية سيطاح بها قبل أو بعد انهيار حكومة بينيت ولن يكون في هذه الحالة يائير ليبيد هو الحل ما لم يقدم شيئا ما إما للقائمة العربية وإما لليكود وخاصة جناح رئيس الوزراء الأطول خدمة في منصبه بتاريخ إسرائيل بنيامين نتانياهو.
تبقى القضية الأهم في نظري، هي الوحدة الوطنية والحشد الشعبي التي حققته شهادة شيرين التي تم تخليد اسمها بمولودات على امتداد التراب الفلسطيني. نحمد الله على أن وسام نجمة القدس -أرفع الأوسمة الرئاسية- لشيرين، وتشييع الرئيس الفلسطيني لها وسط الصلوات المسيحية والتكبيرات والهتافات الوطنية، ضمدت بعضا من جراحها وجراح أهلها وجراحنا – كبشر أسوياء – التي خلفتها تلك التعليقات الإرهابية التكفيرية الدنيئة القميئة التي صدرت عن بعض الخلايا التكفيرية الإرهابية النائمة في أوطاننا حتى هنا في المهجر. لن ننجر إلى الإساءة، ونكتفي بالدعاء للشهيدة شيرين بالرحمة والمغفرة في عليين مع الشهداء، والملائكة، والأبرار، والقديسين. لم يتمكن المسيحيان الأردني نايف حواتمة (الجبهة الديموقراطية) والفلسطيني جورج حبش (الجبهة الشعبية) ومن قبلهما أجيال من العروبيين كميشيل عفلق (البعث) وأنطوان سعادة (القومي السوري الاجتماعي) لم يتمكنوا هم وجميع الخوارنة والشيوخ من داخل المؤسسة الدينية وخارجها، لم يتمكنوا من اجتثاث هذا الفتنة النجسة من بعض المأفونين والرعاع، وهم كثر حتى لا نخدع أنفسنا.
وحتى لا نبقى ككل كارثة وبعد كل شهيد في دائرة البكائية، آن الأوان لإيجاد وتفعيل القوانين الكفيلة بتحقيق المواطنة التامة والحقة إن كنا ننشد بحق بناء أوطان وأمم ومجتمعات وأسر سوية. لا بد لهذا المسخ أن ينتهي بقوة القانون، بقواه الخشنة بعد أن خابت قواه الناعمة جراء ذوي الأيادي المرتجفة أو النيات الخبيثة. لا تقية تخفيها السوشال ميديا اليوم. لو أرادوا وأد هذه الفتنة لفعلوا مثلا كما فعلوا بتغريدات ترامب وكل من تجرأ على التشكيك بالانتخابات الأمريكية أو قصص كورونا التي لا تنتهي!
فهل يفكر محب لشيرين بسن تشريع مثلا يحمل اسمها يعاقب من يسيء إلى مشاعر شريك الوطن الدينية؟ هل تأخذ الجزيرة بطلب مذيعتها الشهيرة خديجة بن قنة في مقاطعة الضيوف الإسرائيليين الذين قدمتهم إلى العالم العربي على مدى ثلاثة عقود. لست مع هذا الطرح، إن صدقت الجزيرة ووسائل اعلام كثيرة أخرى بالمعايير المهنية للصحافة فيما يخص شعارها “الرأي والرأي الآخر”. فصفة “شهيد” لا يجوز صرفها بقرار “تحريري”، عمليا يصل بإيعاز من الممول الوجاهي أو المحرك الخفي أمنيا كان أم سياسيا.
هي أيام ونعرف تفاصيل القتل والقاتل، لكنها أسابيع وأشهر لنعرف التوظيف السياسي لهذه المأساة من قبل الجميع، وربما سنوات لجني الحصاد الذي نسأل الله ألا يكون مرا في حال اندلاع الانتفاضة الثالثة .. انتفاضة بعد عامين من كورونا وشهرين من أوكرانيا .. فأي حرب هذه التي يشتد أوارها بفعل الخبثاء والأغبياء معا..