واقع الأغنية المحلية.. مراد داغوم

واقع الأغنية المحلية.. مراد داغوم
في المقال الماضي ناقشنا آراء السيدين الشاعر الأستاذ “عبد الرحمن الحلبي” وعازف العود الأستاذ “حسين علان، ونقوم اليوم بدراسة هذا الواقع من وجهة نظر مختلفة، لا أجزم بصحتها بل أترك للقراء مقارنة الأفكار الواردة في هذا المقال بما يعرفونه أو يسمعونه من آراء أخرى في هذا الخصوص.
منذ السبعينات الماضية وأنا أطلع على آراء ناقدة للأغنية المحلية، ومن المؤسف أنها كلها طوباوية مثالية، أي أنها تتجاهل الواقع تماماً وتفرض مواصفات أشبه بالأمنيات منها بالوقائع. أخطرها تلك النظرية المعتمدة على مثالية الثالوث المعروف (كلمة، لحن، صوت) وتقول: (تكون الأغنية ناجحة إذا توفر فيها النص الجيد واللحن الجيد والصوت الجيد). هكذا وبكل بساطة يتم تقديم قاعدة عمياء بدون أي وصف لماهية الجودة في كل عنصر، إذ لا يكلف طارحها نفسه عناء شرح معنى اللحن الجيد والصوت الجيد بحال افترضنا أن المتلقين يعرفون تماماً ماهية النص الجيد.
بالرغم من صحة تلك النظرية بداهةً، إلا أنها قاصرة عن تقديم حلول للواقع المعني. فهي مطاطية ومتسعة، وحمالة أوجه كثيرة، تنفتح على احتمالات لا حصر لها من التأويلات النابعة من الأذواق المختلفة، واختلاف الأذواق يؤدي إلى اختلاف الأحكام بالطبع. أما كون الذائقة الفنية هي أمر نسبي وليس مُطلقاً، فهذا يزيد الطين بلَّةٍ! غالباً ما يتجاهل النقاد هذه النسبية إن لم نقل أنهم يجهلونها، فتغدو آراؤهم أحكاماً عرفية ترقى لمرتبة التقديس أحياناً، ويتم اتهام من يناقش هذه الآراء بالجهل الموسيقي، علماً أولئك النقاد المزعومين لا يستندون إلى أي قواعد معرفية علمية في النقد الفني ولم يطلعوا على أبسط قواعد هذا النقد الذي هو فرع آكاديمي رئيسي من كليات الفنون بأنواعها، ويتطلب الاطلاع على نظريات النقد الفني منذ نشوء مشكلة الفن في الفلسفة حتى يومنا هذا.
المشكلة الأخطر هي عندما يُنَصِّبُ الناقد نفسه قاضياً على الأذواق المختلفة ضمن المجتمع الواحد أو حتى عدة مجتمعات أحياناً؛ فيخلق مشكلة مستحيلة الحل عندما يفترض أن ملايين المتلقين هم سبب هبوط مفترض لواقع الأغنية. وهكذا ينبغي علينا تغيير عقول الملايين لتتوافق مع الذوق الخاص لهذا الناقد أو ذاك، وربط الأسباب بإدارة المجتمع المقصِّرة برأيه في تنشئة العامة على ذوق يحدده هو، وتغدو المشكلة في حكومة هذا المجتمع. وهذا هروب بالغ السوء من الاعتراف بعدم القدرة على تقدير حقيقة هذه المشكلة.
ثمة عارض آخر لمشكلة الاقتراب من هذا الواقع تتمثل في توصيف الأغنيات المعاصرة بألفاظ من قبيل: (تدني، هبوط، تردّي) توصيفاً تعسفياً بدون أي شرح للمعايير التي اعتمدها أصحابها لإطلاق هذه الأحكام. وغالباً ما يكون صحفيو ومذيعو الإعلام الرسمي هم الجهة التي تتولى دعوة من “يظنون” أن بيدهم الحلول السحرية لمشاكل هذا الواقع، أو “يظنون” أن الخبرات المتراكمة عندأوئك المدعوين نتيجة الممارسة المستمرة في مجال الإنتاج الفني كافية كمؤهل للإحاطة بالمشكلة والحل.
يبقى العارض المهم الأخير هو لبُّ المشكلة، لكنه مرفوض من قبل الجميع، وهو الذوق العام! وهو العنصر الذي يحاكمه الجميع بلا حق. الذوق العام والإعلام (رسمي وخاص) جهتان يسهل اتهامهما من قبل كل من يرغب بممارسة (النقد الفني)، سبب سهولة الاتهام هو بعدهما عن إمكانية التحكم، إذ لا سلطة لأحد على الذوق العام، بينما لا يخضع سوشال(الأغنية المحلية) مستقلة عن الجميع.
إن واقع الأغنية المحلية ليس متدنياً كما يحاول البعض أن يوهم الآخر، المرجَّح أن بعض ما يتم إنتاجه لا يلقى قبولاً أو انتشاراً بين الناس، والبعض الآخر لا يلقى قبولاً من النخبة العاجية التي تزعم أنها تمتلك إمكانيات ترفع الأغنية المحلية إلى عنان السماء ولكن الإعلام والذوق العام يمنعها. بحجة عدم امتلاك هذه “النخبة” أدوات الإنتاج وأهمها التمويل الكافي. لتفنيد هذه المزاعم نحتاج إلى تجرية بسيطة جداً:
لدينا في سوريا اليوم نجوم معروفون من قبل الناس وجهات الإنتاج، نجوم تنتشر أغنياتهم كالنار في الهشيم بمجرد نزولها إلى السوشال ميديا، يمكنني أن أعدد بعضاً منهم على سبيل المثال: جورج وسوف، ميادة حناوي، وفيق حبيب، ناصيف زيتون، شادي جميل… يمكن للشاعر أو للملحن الذي يلوم الإعلام أن “يجرب” إقناع واحد من هؤلاء أن يقبل نصاً أو لحناً منه، وهنا ستوافق جهات الإنتاج على تنفيذ ذلك العمل، وسينتشر على السوشال ميديا والإعلام … بشرط وحيد بسيط: إقناع ذلك النجم بقبول العمل !!!
كثير من النجوم العرب، اللبنانيين تحديداً، أخذوا أغنيات (نصاً ولحنا) من سوريين في العشرين سنة الماضية، يمكنني ذكر الملحن (فضل سليمان) كمثال طيب عما أعنيه، وقد انتشرت تلك الأعمال بمستوى جيد، إن لم ترد يا صديقي الشاعر/الملحن نجماً سوريا، حاول أن تقنع نجماً لبنانياً أن يقبل منك عملاً. اللهجتان متقاربتان والألحان لا هوية لها.
هنا، وبعد التجرية، سنصطدم بالحقيقة المزعجة: الإمكانيات الإبداعية غير متوفرة، وبدون زعل، الحقيقة قد تزعج ولكنها مفيدة. إن فرض الأغنيات (نصاً ولحناً) من قبل طرابيش الموسيقا بزعم أنها الأفضل وأن كل ما عداها هابط هو ما أوصل واقع الأغنية المحلية إلى ما هي عليه اليوم. طرابيشنا حاربوا أي إبداع بأساليب شتى لدرجة أنهم أوقفوا قبول “الملحنين” في نقابة الفنانين لمدة تفوق العقدين من الزمن، والمعروف أن جهات الإنتاج الرسمية هنا تشترط أن يكون الملحن يحمل صفة (ملحن) من نقابة الفنانين، ما أدى إلى تكريس أسماء تعد على أصابع اليدين من الشعر واللحن لسنوات طويلة، بالإضافة إلى كونهم حراس للإنتاج، أقاموا عليه وصاية، يحاكمون الأغنية نصاً ولحناً بحسب ما يرتأوه، فما يصفونه بالهابط سيكون هابطاً ولو كان بيتهوفن أو نزار قباني. من نتائج تلك الوصاية مثلاً، هو رفض الفنان الكبير الراحل صباح فخري غناء بعض الأغنيات المحلية، فكانت النتيجة أن تلك الأغنيات خلقت نجماً سوريا حلق في سماء الوطن العربي كله هو شادي جميل.
مثال آخر عن نجاح الأغنية بدون تدخل الإعلام، الأغنية الرائعة (ليش انا حبك جنون)، لم تنطلق هذه الأغنية من إذاعة دمشق، ولا من الفضائيات، بل رفعها الجمهور السوري من خلال السوشال ميديا.
سأختم باقتراح أجده مهماً جداً: مهما كنت مبدعاً ومتمكناً من عملك الفني، إياك أن تهاجم ذوق الناس لأن هذا الهجوم هو ضعف واضح. الناس الذين رفعوا كثيراً من الأغنيات الجميلة كالسابق ذكرها هم جمهور محترم يمكنه تمييز الجيد من السيء. إن انتشار بعض الأعمال التي لا ترضيك ليس دليلاً على هبوط الذوق العام بل هي ظاهرة عرضية تنتهي بسرعة. ومن ناحية أخرى، ضع نصب عينيك أن محاكمة الإنسان على ذوقه هو جريمة إنسانية، الاستماع (الأذن) لا يختلف بشيء عن الرؤية (العين) والتذوق (اللسان)، وكل هذه العناصر هي أمور نسبية جداً، فما يرضيك ليس من الضروري أن يرضي غيرك، واتهامك لمن يحب البيض المقلي (مثلاً) بفساد الذوق لأن البيض المقلي (برأيك) ليس لذيذاً سيقابله أن يتهمك خصمك بفساد الذوق لأنك لا تحب البيض المقلي لأنه لذيذ بحسب رأيه. حافظ على رأيك بالذوق محصوراً بـ (أحبه/لا أحبه) وليس (جيد/سيء).
صديقي الشاعر/الملحن .. ما أروع مساهمتك عبر ما تقوم به حيال ما (تظنه) هبوطاً في الأغنية كالتالي:
1 – أكتب ولحّن أغنية بالشكل الذي (تظنه) صحيحاً ومثالياً.
2 – ابحث عمن (يقبل) تنفيذ هذا العمل وينشره.
3 – عاين ردود فعل الناس عليه، وابعد من رأسك أن عبارة (الجمهور عايز كده) هي عبارة باطلة، فالجمهور هو الحكم في قضايا الذوق العام عند كل جهات الإنتاج في كافة أرجاء المعمورة.
4 – لو حاول أحد الإعلاميين توجيهك لأن تتهجم على الأغنية السورية، حاول ألا تتورط بالموافقة على التهجم لأن هذا يعني اعترافاً منك بأن أعمالك لا تلقى قبول الناس.
كلمة أخيرة، غالباً ما يتم توجيه هذا النوع من “النقد” إلى الأغنية الشعبية، وفقط لأنها شعبية، بمعنى أنها متحررة من قيود الإنتاج لدى القطاع العام. فهي تُنتَج بعيداً عنه، ويتم تسويقها خارج مجاله. علماً أن الأغنيات السورية الشعبية التي دخلت كل بيت سوري في السبعينات والثمانينات كانت كلها من إنتاج القطاع العام كأغنيات موفق بهجت وفؤاد غازي. أما بقية الأغنيات التي قدمها نجوم سوريون في تلك الفترة فهي مكتوبة باللهجة المصرية، تم تلحينها وتسجيلها في مصر، ولكن ذلك لا يعيبها مطلقاً !
*مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا