
طلال قاسم ..
كم كان حلماً غريباً وحزيناً!
ذلك المشهد لرجل عربي، يلبس ثوباً وعمامة عربية صحراوية عليهما أثر الغبار، بملامح حنطية ساحرة وواثقة وجنونية ومتصوفة، كان رافعاً يديه نحو السماء، وأمامه في الأرض ناراً مشتعلة، كان يغني أو يلحن صوته بما يشبه التلاوة التوراتية القديمة، قائلاً، بحسب ما أتذكره:
“أنا الأرض وأنا السماء، أنا الأرض وأنا السماء”.
كان يتلو ذلك بطريقة بدت لي حقيقية ومهيبة وحزينة ومخيفة! كان يبدو وكأنه يشعر بفخر وكبرياء ووحدة عميقة بداخله، بعد أن عرف وأدرك بأنه الأرض وبأنه هو السماء.. كان يبدو كافراً بكل شيء، عدا تلك الحقيقة التي كان يتلوها ويغنيها بفخر وحزن.
كان يبدو أكفر أهل الأرض، كان يبدو كما لو أن الأبدية تسكن بداخله، أبدية المعرفة والوحدة والزمن.
أبدية جعلته يرقص كالسحرة حول النار ويغني لفناء كل الآلهة بداخل ذاته وخارجها. لذلك كان يبدو سعيداً وحزيناً جداً في نفس الوقت! كما كان يبدو رغم ذلك خائفاً من هذه الحقيقة التي يغنيها ويتلوها في الصحراء وحده، بلا آلهة، وبلا أتباع، وبلا ملائكة، وبلا شياطين.
كان الحلم غريباً، كنت مستلقاً، واشاهد كل هذا المشهد فوقي كمن يشاهد مقطع في جدار سينمائي.
ما شعرت فيه، حينها، أن ذلك الرجل لم يكن سعيداً تماماً، بتلك الرقصة والغناء الذي يحمل في طياته ربوبية ذاته، كان يرقص ويغني، وكأنه يقوم بطقس مقدس، أو صلاة موحشة ابتكرها ليؤنس ذاته، أو قام بها أمامي ليخبرني كم هي المعرفة والمعاناة التي أخوضها موحشة رغم امتلائها بالكبرياء والغرائب.
كان يتلو ويغني ويرفع يديه ويرقص بوقار كإنسان كامل وخالد، وذو معرفة أبدية، لكنه وحيد، وحيد جداً، وذلك هو جحيمه الأبدي أيضاً. كل البشر كل الآلهة وكل الشياطين الذين عرفهم، لم يكونوا إلا هو.
*روائي وكاتب من اليمن
*منحوتة الفنان فؤاد أبو عساف – سوريا