
يوم الاثنين الـ ١٤ من يناير/كانون الثاني الماضي، كان الأخير لي -على كُرْهٍ مِنّي- في حي السيدة زينب العتيق قبل الانتقال إلى حي عابدين المجاور. في غدواتي وروحاتي لسكني في السيدة كنت كعادتي كغريب يتصفح وجوه المحيط بما اشتمل عليه من جمادات وأحياء.
في السيدة وجوه مميزة. قديمة. ومعبرة: تلك المتسولة الممتلئة القعيدة دائما -أمام مقام الطاهرة نهارا حيث يحج المتقربون وطالبو الوسيلة، وأمام مدخل الرفاعي الكبابجي ليلا حيث يحج الأثرياء الأكالون- ويدها اليمنى تنادي المارة وتستحلفهم بينما يدها اليسرى على قدمها المطوية أمامها على غير عجز سوى الكسل وعدم الحركة. وذلك الرجل بارز العظام كبيرها. يشبه إلى حد كبير شخصيات الليلة الكبيرة. أو نماذج تعليم رسم الكروكي. انطبعت صورته في ذهني منذ أول يوم شاهدته بعمامته الخضراء على عادة دراويش السيدة.
أحيانا في عودتي من العمل متأخرًا كنت أسلك شارعا خلفيا يمر على بيت السناري فشارع الرفاعي حيث الأكيلة السُمناء من ذوي الوجنات الحمراء والعيون الدعجاء الشبعانة من النوم. لم تكن تلك الوجنات والعيون مقصدي من المرور في ذلك الشارع الخلفي وإنما مخبز بلدي بعدها بقليل أبتاع منه رغيفين أفطر عليهما. وما بين مطعم الرفاعي والمخبز بضعة أمتار مقفرة تبدأ بمقلب للزبالة ثم مخازن متهالكة لمحلات في الواجهة الأخرى على الشارع الرئيسي المواجه لمقام الطاهرة. وكعادة المدن الكوزموبوليتية ثمة شوارع رئيسية ذات واجهات لامعة وشوارع أخرى خلفية مظلمة بائسة قذرة. بعد مقلب الزبالة غير بعيد من آخر موائد الرفاعي العامرة التي لا يتسع لها مكان المطعم الرئيسي المكيف ومن ثم خرجت إلى ذلك الشارع الخلفي- بعد المقلب ثمة مصطبة إلى جوار حائط خلفي. وعلى المصطبة كان ينام صاحبنا ذو العظام الضخمة البارزة. في الصيف لم يكن يغطي وجهه على عكس الشتاء.
أمس الأول وبينما أحمل آخر حقائبي تاركا الحي مرورا من ذات الشارع الخلفي وجدت جمعا محدودا من الناس على مقربة من المصطبة. وبين الناس كان يقف ضابط شرطة واثنان من الأمناء. أكملت طريقي ومررت بمكان التجمع. ألقيت نظرة. رأيته. كانت عيناه مفتوحتين وكذلك فمه. كان ميتا. لم يكن يتغطى سوى ببطانية خفيفة مهترئة. ربما مات من البرد.
بعد نحو الساعة عدت إلى المكان لآخذ شيئا تذكرته. ورأيت أن أمر على صاحبي. انفض سامر المجتمعين. لم يكن سوى أمين شرطة واحد يجلس على كرسي إلى جوار صاحبي وقد غطوا رأسه بذات الخرقة التي لم يعرف غيرها صيفا وشتاء. أتيت بحاجتي من السكن وعاودت أدراجي بعد أن أغلقت باب الشقة لآخر مرة. في الطريق إلى عابدين لم يكن أحد عند المصطبة. فقط ذباب كثير يجتمع على رائحة مقلب الزبالة في قبالته.
.
*قاص وكاتب من مصر
*(اللوحة للفنان التشكيلي خالد الحجار– سوريا)
تابعونا على صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews