
Midline-News | الوسط…
.
وقعت لي مصادفة، مثلي في ذلك مثل معظم أبناء طبقتي في مصر، أنّي تنقلتُ ولا أزال بين بيئات وعوالم مختلفة.
ولقد نشأتُ في قرية مغمورة بالنسيان في دلتا النيل العظيم؛ فلا يمرّ بها قطار، ولا بها نقطة للشرطة، ولا هي مكتوبة في أطلس البلدان – ذلك الذي كنا نطالعه صغارا.
بخلاف إخوتي درست في الأزهر، فكانت جامعتي في القاهرة! وفيها تفتّحت عيني على عوالم جديدة لم تعهدها في ذلك الريف البعيد.
ومنذ قدمت إلى القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2001 لم أنقطع عنها، مترددًا حينًا بينها وبين قريتي، ومقيما أحيانا في أحيائها.
وكانت بداية إقامتي في المدينة الجامعية بمدينة نصر، ثم أقمت سنينًا في منطقة ساقية مكي بالجيزة، قبل أن أنتقل إلى رحاب السيدة زينب التي أقمت بها ثلاث سنوات، ثم ارتقيت إلى عابدين وأقمت بها مدة شبيهة، حتى انتقلت مؤخرًا إلى منطقة سعد زغلول على مسافة أمتار من حي جاردن سيتي الراقي.
أردتُ القول إني أقمت بين طبقات مختلفة من المصريين.
وفي أثناء تردادي على قريتي يقع لي أنْ أتعايش في سويعات معدودة بين عدد من الطبقات سواء في المترو أو القطار مكيفًا كان أو عادةً ثم سيارة النصف نقل الوحيدة المتاحة بين مركز منيا القمح وقريتي – وفيها يتعين عليك أن تجلس شبه القرفصاء مدة ثلث الساعة على الأقل وإلى جوارك خمسة من البشر المتفاوتين في الضخامة وإلى الأمام منك ستة أمثالهم.
وحدث لي أنْ تعلمتُ في عدد من الجامعات: الأزهر، والقاهرة، وعين شمس، وحلوان. حيث درست الأدب الإنجليزي، والتدريس، والترجمة، وحضرت محاضرات في الإعلام، والسياسة، والرسم.
وعملتُ عاما في التدريس، ثم عملت مترجما لسنوات واستخرجت بطاقة هويّة تثبت هذه المهنة، قبل أن تتغير لاحقا إلى صحفي.
وأثناء عملي تنقلت بين مؤسسات كانت أولاها مدرسة في قرية مجاورة، ثم مكتب ترجمة متواضع في حي العتبة، ثم مكتب أفضل حالا في وسط البلد، ثم شركة ترجمة في الدقي، ثم مؤسسة إعلامية حكومية كبرى، ثم مؤسسة إعلامية دولية كبرى.
كان هذا مدخلا لم أرَ بُدًا من الاستهلال به، فمعذرة على الإطالة.
ولقد خلقني الله شخصًا شديد الحساسية، هادئ الطبع، أحبّ التأمل، وأجيد استعمال حواسي إلى حد بعيد.
ولقد رصدتُ في الريف وفي القاهرة وفيما بينهما من أحوالٍ وطبائعَ للمصريين تتشابه في النوع وإن اختلفت في الدرجة والأسلوب.
وأبرز تلك الصفات: استمراءُ الضِعة والإهانة واعتمادهما منهجًا في المعاملة والتربية والتعليم، والعمل على توريث ذلك ونشْره بين الأجيال قدر المستطاع عبر أيّ وسيلةٍ كانت حتى ولو بالحَكي.
وكنت كلما ترقيت من مكان لآخر أظنّ باطلاً أنني نجوت من القوم الظالمين، ولكن سرعان ما تتكشف لي الحقيقة: “هيّ نفس الوسيّة”.
وكانت مدرستي في القرية، هناك بين الأراضي الزراعية، أشبه بمعسكر اعتقال، على رأسه رجل ممسوس، يمسك في يده خشبة هي جزء من دكّة دراسية ويهوي بها على مَن تقع عليه عينه من بشرٍ آخرين، حتى لو كان الضحية مدرسًا.
وترى الجميع يلتمس له الأعذار. وفي مدرستي الإعدادية على سبيل المثال لا الحصر، كان المتداوَل بين التلاميذ أن ناظر المدرسة رأى بعينه ابنًا له يلتهمه القطار في المركز، ومن يومها وهو مختل عقليا. فكنا نحاذر أن ندنو منه حتى في كوابيسنا.
وفي الجامعة، كان الأساتذة جبارين إرهابيين. لا يرون في الطلبة البسطاء غير رهائن وأسرى حرب. ولم نكن في تلك الأيام البائسة ننعم بوسائل التواصل الاجتماعي لنرصد ما نتعرض له من إهانات.
وكان هذا ولا يزال فيما أعلم عُرفًا سائدًا في الجامعة بين الأساتذة والتلاميذ، لا سيما الطامحين في الحصول على درجة فوق جامعية.
وفي العمل، رأيت بعيني أساتذة فوق الخمسين يرتعدون خوفًا من بطش رئيسٍ لا يحمل في رأسه غير الجهل وأساليب التخويف والإهانات التي أدمنها زمنًا وحان وقت أن يسقيها لمَن هم دونه.
وأخيرًا ولا أظنّه آخرًا، وقف أحدهم وهو كهلٌ كبير، يحكي بصوتٍ جهوريّ ملؤه الفَخار أمام جمْع من الرفقاء، كيف تعلّم فنّ الصحافة على يد أستاذ قدير كان مديرًا له. ويقول كان هذا الأستاذ العظيم يناديني: “يا حمار”، وكان صاحبنا يردّ بكل فخار “نعم يا ريس”.
“أنا حمارك يا بلد”.
.