حكاية أَمة … سماء زيدان

يتسائل البعض عن سحر الفن، كيف لبعض الكلمات والصور والأحداث أن تغيرك؟! أن تشل تفكيرك، تلهث وراء الكلمة، تستدرجك الصورة لمناطق يصعب اكتشافها، لأسئلة لا تريد أن تطرحها على نفسك؟.
كيف لرمز عادي أن يحيلك إلى قصة كاملة عن الصمود؟! رمز مثل الملعقة يستدعي صورة نفق الهروب، أو مراكب الغرق في رحلة الهجرة غير الشرعية ترافق الأجساد المتحللة فوق الشواطئ، صورة ومدلولها تسحقنا في نشرات الأخبار اليومية لا تخبرنا من تخطى النفق ولا نرى فيها من عبر المحيط في بطن قارب صغير ونجا، رغما عنا تكمل مخيلتنا الحكاية، الأمل يرسم لنا النهاية التي نتمنى.
يأتينا الصمود من جملة عابرة او كلمة كتبها مهزوم، وقد يأتينا من تكرار المقاومة لنفي الاستسلام والهزيمة فالبعض بالتأكيد قد نجا، فعلها.. نجح في الهروب ومُنح الأمان.
انتظرت أسبوعا كاملا بعد مشاهدة الأجزاء كاملة لأكتب خاطرة حول المسلسل الأمريكي The handmade’s tale الذي بدأ عرضه عام 2017 في أربعة مواسم متتالية حتى 2021. وهو مأخوذ عن رواية تحمل نفس الإسم نشرت فى 1985 للكاتبة الكندية والناشطة النسوية بالغة الفطنة مارجريت آتوود.
تروي الحكاية بلسان بطلتها عن العبودية في دولة “جلعاد” التي ولدت فوق أنقاض العالم الرأسمالي الامريكي الحر، المسلسل تدور قصته في عالم متخيل تنخفض فيه نسبة المواليد لتصبح واحدة من النساء فقط من بين 100 امرأة يمكنها الإنجاب نتيجة التلوث الصناعي وسيطرة رأس المال الجشع وسيادة القيم المتحررة، ما أدى لخلق ثورة في الولايات المتحدة الأمريكية تقودها جماعة دينية متعصبة تعرف ب”أبناء يعقوب”، تحكم في نظام هرمي عسكري شمولي تستمد دستورها من شرائع دينية مسيحية مضاف إليها قوانين المغالاة التي يتفنن البشر في صياغتها، قوانين وضعية سنتها قيادتها الثورية التي تحمل فكرا ساديا متطرفا، ترى أن هدفها إنقاذ العالم من الفناء بأي ثمن، ولو كان العودة لقيم العصور الوسطى ومصادرة الحريات وإطلاق أحكام الإعدام والتعذيب الجزافية.
سُنت هذه الأحكام لتعود بالنساء لعصر الإماء والجواري، تأسر كل من لها قدرة على الإنجاب لتجنيدها في معسكرات إعداد مغلقة، تمارس فيها كل أنواع التعذيب والحرق والضرب على نساء محظور عليهن الاحتفاظ بأسمائهن يرتدين زيا موحدا باللون الأحمر، مجندات في مثل ما اطلق عليه مؤخرا بجهاد النكاح، يسكن بيوت القادة ويمنحن أجسادهن أو بالأحرى أرحامهن طوعا بدلا من الزوجات العقيمات، الزوجات يرتدين الأزرق الملكي ورغم عقمهن يحظين بكافة الامتيازات ما عدا القراءة والتعلم، دورهن يقتصر على رعاية أزواجهن والحياكة والزراعة والمجاملات الاجتماعية، ثم انتظار طفل تنجبه لها جاريتها في عملية آلية جبرية تقوم فتاة الزي الأحمر بدور الجارية فيها لسيد البيت، وتحت عين سيدة الدار وحضورها.
وسط مراسم دينية وترتيل آية من “التوراة” كغطاء شرعي تُنتهك كل المبادئ الإنسانية والاخلاقية، يردد كل قائد في حضرة زوجته وجاريته “فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب، غارت راحيل من أختها، وقالت ليعقوب، هب لى بنين، وإلا أموت! فحمى غضب يعقوب على راحيل وقال: ألعلى مكان الله الذى منع عنك ثمرة البطن، فقالت: هوذا جاريتى بلهة، ادخل عليها فتلد على ركبتى وأرزق أنا أيضًا منها بنين” العهد القديم. سفر التكوين. 1-3:30
تقيد الزوجة الأمة المستسلمة فوق الفراش، يقوم الزوج باغتصابها دون أي مشاعر من أي طرف، فالمشاعر جريمة، سيدة الدار تحصل في النهاية على طفل وليد ترضعه الجارية ثم ترحل لبيت جديد تنجب فيه مرة أخرى لأسرة عقيم طفلا جديدا.
في دولة الطاعة والانصياع تتم المقايضة بلا نقود او عملات، لا موضة ولا أذرع ولا نهود عارية ولا كعب عال، السيدات يلتزمن البيوت بمظهر موحد كلاسيكي، والإماء رؤوسهن خفيضة كرؤوس الطير الحزين، عيونهن تنظر لأحذيتهن، ممنوع عليهن رفع الصوت والهمس الا بكلمات التحية الموحدة التي اعتدنها مثل (Under His Eye),(May god bless the fruit)
وهل حقا يحدث كل هذا تحت عين الإله وأين هي هذه الثمرة التي سوف يباركها؟!
بطلة الحكاية “جون أوزبورن” كانت حتى وقت قريب تعيش حياة هادئة أم وزوجة وحبيبة، تعمل محررة أدبية صحفية، يقبض عليها وتأخذ منها ابنتها، وتضم لصفوف النساء ذوات الخصوبة اللواتي يتم تلقيحهن من قبل القادة، تتمرد مرات ومرات تسعى أولا لاستعادة اسمها، يقبض عليها أثناء محاولتها الهرب بابنتها، تضرب وتعذب على يد قوة من النسوة ذوات الزي العسكري الرمادي وفق قوانين تذكرك بالنازية السادية، ترفض الخضوع لهذا العالم الذي سلبها كل شئ
تقول الكاتبة آتوود في أحد حواراتها “لا شيء في كتابي لم يحدث من قبل، لم أتحدث أبدًا عن شيء لم يفعله البشر بالفعل في مكان ما وفي زمان ما”
كيف يخون الانسان قيمه ومبادئه حين تتعارض مع مصلحته ؟! ولأي مدى تتمدد قدرة الإنسان على التكيف والاعتياد؟سبع سنوات قضتها جون في الأسر قتل البعض وخضع الكثيرون لكنها تأبى إلا أن تقاتل من أجل حياة أفضل لغيرها.
شيئا فشيئا ومع كل حلقة من حلقات المسلسل تتورط أنت معها ويتغير شئ ما بداخلك، تحارب معها وتصمت معها وتبكي معها وتنسحق مثلها، تريد الانتقام لها ولنفسك ، أنت لاتعود كما كنت قبل أن تشاهد هذا المسلسل لا يمكنك أن تتجاهل ما يحدث بعقلك ولا بوجدانك..
تقوم جون التى منحت اسم أوفريد بدور بطولي في المقاومة الجماعية السرية تخطط لتهريب الجاريات الأخريات وأطفالهن لتمنحهم فرصة لحياة أفضل في كندا الدولة التي تمنحهم حق اللجوء السياسي.
مسلسل قاس الى درجة أنك تشعر بالضرب والانتهاك والعذاب معهم.. ولو أنه في ظاهره استخدم الأنثى كواجهة تروي الحكاية.
لكن العبودية بأنيابها طالت الجميع بمن فيهم الرجال أيضا، الذكور في أرض القمع أسرى وكذلك زوجات القادة . “سيرينا” الكاتبة ذات الآراء المتطرفة زوجة القائد التي ساهمت في تأسيس دستور دولة جلعاد، تسيطر على زوجها وتخطط وتدبر له منذ البداية حتى يصبح من أكبر القادة، ثم تدفع الثمن تطالها نيرانها التي أشعلتها يقطع اصبعها حين تتلو آيات الإنجيل جهرا، ويجبر أحد القادة البارزين على اغتصاب خادمته، ترى الإذلال بين القادة وبعضهم والتنافس على المناصب، تقطع يد أحدهم بوشاية زوجته، ويجبر السائق نيك على الزواج من قاصر، الكل مهان فالانصياع عبودية..والحرية ليست أن تلبس الألوان أو تتزوج من شئت أو تعبد من شئت، الحرية هي أن تختار بلا خوف..الحرية في الأمن..
جماليات المسلسل لا تنتهي عند السيناريو المحكم والأفكار الفلسفية والتساؤلات التي تبقى بلا أجوبة، لكنه عمل فني متكامل.. أتت مونولوجات أوفريد الداخلية، جعلتنا نعيش عبر صوتها كابوسها المظلم كأن صوتها الداخلي هو السلاح الوحيد الذي تملكه ويذكرها بحريتها، سخريتها وتهكمها تنبئك بأنها روح رافضة متمردة تأبى الانصياع.
استخدمت تقنية الفلاش باك كثيرا طوال الاجزاء الاربعة لتمنحك مزجا بين الحاضر والماضي مزجا يحاصرك فيصعب افلاتك من قبضته، ثم تأتي زوايا التصوير والموسيقى المصاحبة لتعيدك لعصور خلت بين ألوان مائعة واضاءة باهتة بل واحيانا حادة تشعرك بخوف وخطر محدق حتى في لحظات النوم، استخدمت اللقطات القريبة والقريبة جدًا في نقل الجو الخانق والحصار الذي تعيشه الشخصيات، واستخدمت اللقطات المحلقة العلوية كمثل عين الإله المراقب والتي تظهر ضآلة وانسحاق الشخصيات وخضوعها لصفوف عسكرية وتشكيلات هندسية أكبر من وعي الشخصيات، كما لو كانت قدرًا إلهيًا، لا يمكن تجاوز الحلقة الاولى من دون ملاحظة الكادرات المختارة كأنها لوحات عالمية بل بعضها بالفعل تلتقطها العين المدربة على الجمال مثل لوحات مونية ولوحة العشاء الأخير لدافنشي، الأداء فوق المعتاد والحوار المركب كلها عناصر تضافرت لأخراج عمل بهذه الروعة.
أتذكر النهايات السعيدة التي تترك فوق وجهي ابتسامة بلهاء ثم أتأمل هذه النهاية اختارت جون قتل القائد الذي طالما قتل روحها، لا خيار للتحرر من الأسر سوى الانتقام، لكن هذا الانتقام له ثمن باهظ تعود الى بيتها ملطخة بالدماء لزوجها الذي أصبح مسؤلا عن ابنة ليست ابنته بيولوجيا لتطلب منه خمس دقائق لمرة أخيرة تودع فيها طفلتها، أعجبتني النهاية حتى وإن عادت جون بعد سنوات الأسر لزوجها لا يمكن أن تعود حياتها لما كانت عليه من قبل ولا حياتنا قبل أن نشاهدها.
.
*كاتبة من مصر
http://تابعونا على صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews