إضاءاتالعناوين الرئيسية

جدتي والتلفزيون! .. أحمد علي هلال

|| Midline-news || – الوسط …

جدتي أشبه بتاريخ حي، بقدر ما يختزن حكاياته لأزمان أخرى، أتوسل تدوينها لتصبح ذاكرة طازجة يتواتر فيها الشفاهي والمروي، ليأخذ تدوينه على نحو مشتهى لا أعرف بالضبط ماهية علاقة جدتي بالتلفزيون، لكنني أحفظ جملتها: التلفزيون هو عيون الشيطان، ذلك الجليس، الذي يخطف صمتنا ويجعلنا أسرى طواعية، ذلك الخيال المسفوح، الطليق.

في ما مضى كانت أصابعها تفتش عن حكاية مرئية لا تعرفها تضحكها حد البكاء دراما تلك الأيام بعفويتها وبساطتها وبراءة متخيلها، ربما كانت –تلك الدراما- تشبهها، بحتمية اندحار الشر في نهاية المطاف، وبجدوى النهايات السعيدة، ولو عرفت “سرفانتس” لقالت: قل لي ماذا ترى، أٌقل لك من أنت! منذ دخل اللون على الشاشة الفضية أصبح للأشياء نكهة أخرى، سقى الله أيام “الأسود والأبيض”، كان حدان فاصلان ربما نحتاجهما في وقت لم تعرفه جدتي التي اعتبرت آنذاك، وفي حدود علمها أن “حارة القصر، ورأس غليص” درة مشاهدتها، ولو رأت دراما من نوع آخر لقالت إنني أتفرج على الواقع في التلفزيون، حاولت أصابعي عبثاً أن تستقر على ما تبثه تلك الفضائيات، هتف طفل في داخلي: لماذا يفعلون بنا ذلك؟!

يتلاعبون بالعقول على حد تعبير المفكر الفرنسي اللامع بيير بورديو..

لا شأن لجدتي بما فاض من حكايات لم يستطع خيالها القبض على صورها الملونة بالدم، ولربما قالت أجل إنها علائم قيام الساعة، وكان لتندرها الممزوج بالأسى وفطنة الأمل أن “يرش على الموت سكراً” وأتبعتها بجملتها الشهيرة: “عدو جدك.. عدوك”، البعض لم يٌسوق للكآبة، يحترف حزنه، لكنه لا ينسى الفرح يقول بتندر إضافي، مثلوم الرجاء: “من قال إن أهل السماء لم تنبتهم الكآبة عندما أطلوا على الأرض، ليجدوا أننا استبدلنا أقدامنا الأمامية بأسناننا الأمامية، أليس هذا ما يكتبه الشعراء على الأقل على المرايا”.

حاولت أصابعي عبثاً أن تٌصمت ذلك الهذيان المستطير، بشظاياه التي تصيب حروف الكتابة، وما يتطاير من شفاهنا، وأعترف أن الوقت يخاتلنا بعض الشيء، ونحن ننظر بعيون مواربة صريحة دون أن نطلق رصاصة الرحمة على الهذيان، حسناً ثمة من ينشغلون بالرياضة، ما معنى فوز البرازيل على كوريا بثلاثة أهداف نظيفة؟!

إنها أشرف الحروب كما قال الراحل محمود درويش، وعلى فكرة، كان الناقد الفرنسي رولاند بارت مولعاً بالرياضة، ووضع كتاباً في فهمة وفلسفته للرياضة، لكن الأمر لا يختزل بهذه البساطة، لطالما قيل إن “المستقبل يوجد في أطراف الأصابع” وإنه لا ينفع التزلج على الماضي، أو الاعتذار من المستقبل..

الحق أقول لكم أن جدتي لم تمتلك سلاطة لسان عجائز الطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال” ومع ذلك ثمة تحت الأوراق اليابسة نسغ وربيع، وهي ترنو لوطن/ جسدٌ، أميرٌ حصانه الضوء، يصد بشطآنة تعالي الموج. ولو عاشت مرتين، لعادت إلى حقلها المزنر بالتفاح، ولتندرت من جديد: هل تحررت فلسطين من نهرها إلى بحرها حتى ينشغلوا بنا؟!

حسناً ليس بوسعنا إغلاق التلفزيون، ولكن من يجبرنا أو يرغمنا على أن نصدقه.. لم تتخرج جدتي من أكاديمية سياسية لتبرع في التحليل والتمحيص، فقط غرست في ذهني جملة من الصعب نسيانها: الشجرة المثمرة هي من تُرمى بالحجارة،.. وثمة شاعر يرفع صوته على الملأ: يا أمتي هذا مخاضك، فانتحي في الشام زاوية… ثم هزّي نخلة ترمي عليك ثمارها.

*كاتب وناقد- سورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى