إضاءاتالعناوين الرئيسية

يبدأ الشعر ليهطل آخر المطر.. حسين شعبان

قراءة في كتاب الشاعرة سمر محمد محفوض

|| Midline-news || – الوسط
.

“تكلم كي أراك” و”اعرف نفسك”. هذه العبارات التي نطق بها سقراط؛ هي أبلغ تعبير عن مدى قدرة الإنسان على التعريف بنفسه وبالأشياء التي تحط به ويعايشها. وهي أول ما خطر في بالي بعد قراءتي المجموعة الشعرية للشاعرة د. سمر محمد محفوض.
لو كان في مقدور الإنسان تعريف نفسه، لكانت الأسرار العميقة سطحية. إلّا أن الإنسان الذي لا يعرف، أو الذي لا يُحاول معرفة نفسه والتعريف بها جيداً، سيكون أقل معرفة بالوجود، وأقل معرفة بالحياة. هناك نوع من الجدل بين لا نهائية هذه المعرفة وبين ما يتوصل إليه الإنسان من معرفة وتعريف. لكن، رغم كل هذا الوعي، سيبقى الإنسان عالماً مجهولاً، وبقدر ما نتقدم في اكتشافه، نتقدم في الوقت نفسه، بالكشف عن النفس اللانهائية. أي أن هذا الكائن الذي يسمى الإنسان يبقى السر ولغز الحياة الجميل.

.
مع المجموعة الشعرية “آخر المطر” للشاعرة محفوض؛ شعرت أن الإنسان عالم من الأسرار، كما الشعر. هو سؤال وليس جواباً. وأظن أن أعمق ما يميزها كشاعرة هي تلك القدرة التي تمتلكها، قدرتها على طرح الأسئلة. إن الجواب الذي يزعم أنه هو جواب نهائي، هو بالتأكيد، إفناء للجواب، وإفقار للوجود، ومحو للآخر.
أما من ناحية الحياة العملية، من حيث الحياة التي انطلقت فيها، فإن ولادتها كانت بمثابة تفتّح على الشعر. الوعي الأول، والنظرة الأولى، والشعور الأول كان مع الشعر. فمحيطها الذي نشأت فيه كان طبيعياً (ينتمي الى الواقع). وكان أكثر قرباً من الطبيعة، حيث عاشت حياة البسطاء لدى أب مناضل وشريف كما عاشت مع الشجر والزهور والتراب والشمس والقمر والكواكب. مارست حياة ابنة الكادح على أكمل وجه. عرفت المدينة والأرياف بكل معانيها وتعبها وجمالها وخيرها. وراكمت خبرتها.. كل هذه الأعمال كانت في مقتبل العمر الأول. وقد صقلتها هذه الأعمال وبلورت شخصيتها ووضعتها على سكة الوعي، وفتحت لها باب المعرفة. ثم يأتي سفرها إلى ألمانيا واستقرارها في غرب أوروبا ليتوّج توأمة بين الشرق والغرب. سحر الشرق وعمقه وحرية الغرب وفُرصه.

نبضة الشعر هي التي خفقت أولاً في حياتها. إنها النبضة الأولى التي أشعرتها بمعنى الحياة وأهميتها. فكانت القصيدة التي كتبتها وهي (روح) بمثابة الولادة الثانية التي فتحت لها باب الحياة، حيث انتقلت من المحسوس إلى اللامحسوس و بدأت تعيش وتتعرف على عالم آخر. وعندما دخلت الى عالم مختلف ومنفتح ويختلف كلياً عن الواقع الذي كانت فيه، دخلت الى تنوع حياة جديدة، على كل الأصعدة. كان عالماً واسعاً ويختلف كلياً عن واقع الحياة التي عاشته في بلدها. وطبعاً، أتاح لها هذا الجو الجديد مزيداً من الانصراف إلى كتابة الشعر وقراءته، وبشكل خاص، الشعر الجريء في مختلف أشكاله. ومن ثم بدأت تتعرف على الشعر الغربي، وبشكل خاص الشعر الألماني. ورأت في الشعر ما يفتح لها أفقاً للحياة والتفكير بشكل أوسع. ما أغنى ثقافتها وأشكال المعرفة لديها.

في هذه المرحلة، بدأت أيضاً بترك مسافة بينها وبين الشعر الموروث، وأخذ اهتمامها يتركز على الفكرة وليس على جمال النص فقط. كتبت الشعر كي تفهم نفسها، والعالم، والآخر. ساعدها الشعر، بشكل خاص، على اكتشاف الآخر، والحاجة إليه. اللغة هي الآخر، وليست هي الذات وحدها، وهوية الإنسان مرتبطة بهذا الخطاب. لكي تكون ذاتك، يجب أن تكون الآخر أيضاً. الهوية ليست حاضرة مسبقاً، هي ابتكار متواصل. الآخر عنصر مكون من عناصر تكوين الذات. الإنسان يخلق هويته، وشعره، وفكره وحياته وهذا الآخر في مرات كان زوجها وحبيبها وائل وفي مرات ابنتها الرائعة آديل ومرات والدها ومرات كثيرة وطنها الذي لم يفارقها.
في قصيدة “حين تفقدني” يبدو الحب هو الحياة.لكن للحب أصول ومتطلبات ليست سهلة على أي إنسان. وفي رأيها لا يوجد حب مطلق، بل هناك حب محدد، حب يقوم على علاقة محددة بين رجل وامرأة. وكل حب لا يمكن أن يشبه سواه. الحب هو التجربة في الحب. وحتماً لا تتكرر التجربة، تبقى خاصة لا تتشابه مع أي تجربة أخرى. أما الإنسان الذي لا يحب، فهو حتماً لا يعيش تجربة الحب، وهو إنسان غير موجود  إلّا بالاسم!

في المقابل أمر الخيبة مستحيل في حياتها.. إن الخيبة في الحب لا تحدث إلّا بفعل العاشق أو المعشوق. إذا حلّت الخيبة في الحب، فإن الحب ليس مسؤولاً عنها، بل المحبوب هو المسؤول. الحب لا يخيّب أبداً. لكن، وربما تكون الخيبة هي جزء من الحب، بوصفه تجربة لا يمكن أن تولد كاملة. الحب لا يمكن أن يولد كاملاً، وكذلك لا يمكن أن ينتهي كاملاً. وبناءً على هذا المعطى، لا يوجد حب في المطلق يعيشه عاشقان. صحيح أن الواحد منهما يحب الآخر، لكن كلاهما يسير صعوداً وهبوطاً. اذا حلّ الترهل في الحب، فإن سببه يعود الى الفاعل المترهل. يترهل العاشق أو المعشوق. الحب لا يترهل ولا يشيخ. الحب يبقى، بل يبقى يستمر ويتفاعل كتجربة وكفعل حياة صافية ونقيّة. وفي حالة كهذه، يحتاج الحب الى الصداقة، لأنها تحضن الحب. لذلك، العاشقان يجب أن يكونا صديقين، يتصارحان ويتخاصمان ويزدادان حباً في الخصومة.

الحب كما في قصيدة “حمّلتني أجراسا” شعلة عشق لا تنطفئ. وإذا انطفأت تنطفئ حياتها فوراً… تعشق، وتجد الوجود كله عشقاً. وتكره، فتجد الوجود كله كرهاً. الحب قضية ووجود. عالم بلا حب، حياة بلا معنى كما في قصيدة “أقول لك” إن كثرة الحب وقوته في حياتها تجعلانها تشعر بأنها لا تحب. فيض الحب يسيّجها من كل الجهات. ومركز هذا الحب هو ذاتها حتماً.
في قصائدها (وغى- يا أنا- قراءة- آلهة) ليس هناك امرأة في المطلق. لا توجد امرأة في الوجود تشبه سواها.  كل امرأة هي كيان خاص بذاته، لا يمكن مقارنته بسواها. لكل امرأة عالمها الخاص وجسدها الخاص. وكذلك الأمر بالنسبة الى الرجل. من هنا، يمكن القول، إن المرأة هي حالة وهي تجربة حياة وحب. لا يمكن فصلها عن ذاتها، ولا يمكن تفضيلها عن سواها. إنها كيان مستقل يتكامل في أحاسيس الرجل، والعكس صحيح، يتكامل الرجل في أحاسيس المرأة.

أما في قصائدها (ظلك القمر-لحن- امرأة قديمة) لا جمال في المطلق. الجمال لا ينحصر في الشكل الخارجي للمرأة، إنما جمالها مبثوث في كل عالمها الداخلي. إن معيار الجمال قائم في الأحاسيس-  الكيمياء؛ بين رجل وامرأة. الحب أعمى، والرجل يرى في المرأة كل ما يحبه، لذلك يراها جميلة، وكذلك الأمر بالنسبة الى جمال الرجل في أحاسيس المرأة.
وفي قصائدها (شهداء الإرهاب – غصة) حيث الوطن والإنسان اليوم. نحن في زمن العذاب والخراب، وإنسان اليوم يعيش في ذروة الموت والدم والإرهاب المجنون. هل الظلم والقهر والموت المجاني قدر حتمي للشعوب والإنسان؟
لكن محفوض في “تصوّف” تثور على المقدس. وفي “ضوء سيجارة” تحول الجنس إلى حالة تصوف أو ذوبان أو خلق جديد. وطبعا قصائد أبيها وأمها وزوجها وبنتها تعكس أنها مجموعة أشخاص في شخص واحد.
وفي مجمل الكتاب الشعري رسالة تقول: لا قلق اسمه الموت.. لا قدرة لها على مواجهة الموت. إنها تتقبل الموت كجزء من حياتها. لذلك، كل مدارات اهتماماتها في الحياة هي، كيف أحيا، وكيف أساعد الآخر كيف يحيا. كل فكرها في الحياة. إنها تعيش مع الحياة بإصغاء كلّي، بتمعّن وثقة كبيرة. وتنظر إلى الموت نظرة هادئة جداً، وسيكون هذا الموت نوعاً من تتويج لحياتها لم تهادن إجرام أصحاب الأديان ولا فساد أصحاب الكراسي.
وبقيت صرخة امرأة.. شقت سكون النفاق.. وخوف المتحذلقين.
.

*كاتب من سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى