إضاءاتالعناوين الرئيسية

“ويسكي مغشوش” … أ.د. محمد عامر المارديني

ويسكي مغشوش” …
كانتِ السّاعةُ تقاربُ الواحدةَ من بعد ظهيرة ذلك اليومِ حين دخلَت سيّدةٌ ثلاثينيّةُ العمر، طويلةُ القامة فائقةُ الجمال، مكتبَ رئيسِ قسمِ السّمومِ في الجامعةِ، تضعُ على رأسِها برنيطةً سوداءَ ذاتَ حواف عريضةٍ، وقد ارتدت فستاناً أسودَ اللونِ مطرّزاً، بالغَ الأناقة، سترَ قليلاً ما فوقَ الركبتين، كما شفَّ كثيراً عن ساعدَيها وكتفَيها وغيرِ كتفَيها، أمّا مكياجُها فقد كان خفيفاً جدّاً يوحي بإطلالة بسيطةٍ ولكنّها أنيقة ولافتة تكادُ تظنُّها “الليدي ديانا” تدخل عزاءَ أحدٍ ما في بلاطِ العائلة الملكيّةِ البريطانيّة.
.
تقدَّمت تسلِّمُ على رئيسِ القسم برؤوسِ أصابِعها، ثم استأذنَت للجلوسِ على كرسيٍّ جانبيٍّ وقد بدا الحزنُ والأسى عليها حتّى أوشكَ الدّمعُ يفرُّ من عينَيها ممّا جعلَ الرّجلَ ينتفضُ من مقعدِه ليقدّمَ لها حزمةً كبيرة من المناديلِ الورقيّةِ سحبَها دفعةً واحدةً من العلبةِ وقد أربكَه جمالُها وبهاءُ طلعتِها.
قال لها بصوتٍ رقيق: لمَ البكاءُ أيّتُها السيدةُ الجميلة؟ يبدو عليكِ الحزنُ الشديد.. كيفُ أستطيعُ مساعدتك؟ قالت بصوتٍ متحشرج، والكحلُ يسيلُ على خدَّيها الورديّين: أتيتُ إليك لأستعلمَ عن نتيجةِ تحليلِ الأحشاء. قال لها بتعجُّبٍ: تحليل الأحشاء؟ ماذا تقصدين أيّتُها السّيّدة؟ صمتَت لبرهةٍ ثمّ مسحَت بإصبعَيها بعضَ الدّمعِ المنسال من جفنَيها وجفّفته بالمنديل الورقيِّ ثمّ فتحَت حقيبةَ يدِها وأخرجَت مرآةً صغيرة تفقّدت ما آلَ إليه مكياجُها وقالت بنواحٍ: زوجي المسكين، أرسِلَت إليكم أحشاؤه من قبلِ النّائبِ العام منذ بضعةِ أيّام لتحليلِها. قال لها متسائلاً: أحشاء زوجِك؟؟ قالت: نعم لقد مات زوجي وسندي وحبيبي، مات مَن كان كلَّ شيء في حياتي، مات شريك عمري و رفيقي لا بل ابني، نعم كان كالابن أيضاً فقد حُرمتُ نعمة الإنجاب ولم أحظَ بولدٍ يؤنسني في شبابي ويحنُّ عليّ في كبري.
قاطعَها رئيسُ القسم قائلاً وقد بدا عليه التّعاطفُ الجمُّ مع السّيّدة المكلومة: مممممم، عرفتُ ما تقصدين، نعم، تذكّرْت لقد انتهيتُ من تحليلِ تلك الأحشاءِ منذ مدَّةٍ قصيرة، وسأرسلُ النّتيجةَ للنائبِ العامِّ غداً. قالت: أرجوك أن تخبرني النتيجة، طمئن قلبي الله يخلّيك. قال لها: بالرّغم من أنّه يُمنَعُ عليَّ إعطاءُ النّتيجة إلّا لمَن كان قد طلبَها رسميّاً لكنّ حزنكِ قطّعَ قلبي مع الأسف زوجُك مات متسمِّماً بالزّرنيخ.
” …
هوتِ السيّدةُ من طولِها على الأرض وقد أغمي عليها. حاول رئيسُ القسمِ مساعدتَها فوضع ساعدَها على كتفِه وتلقَّفَه بيده الأخرى ووضعَ أذنَه على صدرِها يستطلعُ صدى ضرباتِ قلبِها، ثم سحبَها وأضجَعَها على أريكة جانبيّة تحتَ النافذة المفتوحة، وراحَ يمسحُ وجهَها بمنديلٍ معطّر ؛ بكلِّ رفقٍ وحنانٍ إلى أن استفاقَت من غفوتِها لكنّها بقيت مضطجعةً على الأريكة والدّمعُ يجري من مقلتَيها مدراراً، وبنحيبٍ متواصل، وما لبثت أن صرخَت وهي تشهقُ بين كلمةٍ وأخرى: مستحيل أرجوك لا تقُل هذا، لا يمكنُ أن يموتَ مسموماً.. لقد كان طوالَ النهارِ في البيت ولم يخرج منه، سؤالي يا دكتور: هل يمكن أن يكون “الويسكي” الذي كان يشربُه مغشوشاً وأودى بحياتِه؟ قال رئيس القسم: لا أعتقد أن يتسبّبَ مشروبُ “الويسكي” بوفاتِه حتّى وإن كان مغشوشاً، إنّه مقتولٌ بالزّرنيخ يا سيّدتي.
عاودتِ السيدةُ النحيبَ بصوت عالٍ متحسّرةً على أحنِّ وأطيبِ زوجٍ في الدّنيا، وأخذت ترجو من رئيسِ القسم إعادةَ التّحليل للتأكُّد، لكنّه قال: النتيجةُ واضحةٌ، ولا جدوى من إعادةِ العمليّة!
.
خرجتِ السيّدةُ من مكتبِ رئيس القسم وهي تجهشُ بالبكاء، تساعدُها السكرتيرة في مشيتِها حتى وصلت حيث سيّارتُها متوقّفةٌ و غادرَت. لم يمضِ سوى يومٍ واحدٍ بعد هذا الحديث حتّى حضرَ محضرُ المحكمةِ يطلبُ نتيجةَ التحليلِ فجرى تسليمُه تقريرَ الخبرةِ أصولاً. وبعد أكثرَ من عام تشاءُ الصّدفةُ أن يلتقيَ رئيسُ القسم بالنائبِ العامِّ في قصرِ العدل حيث كان يدلي بخبرتِه في موضوعٍ آخرَ فيسأله عما آلَ إليه التحقيقُ في مقتلِ ذلك الرّجلِ الذي خلصَت نتيجةُ الخبرة التحليليّةِ إلى وجودِ الزّرنيخ في أحشائِه، فتنهَّدَ النائبُ العام قائلاً: إنّها قصةٌ عجيبة وغريبة، دعنا نشربِ القهوةَ معاً لأقصَّ عليك ما جرى. لقد كان ذلك المغدورُ مدمناً على الكحول، وقد اعتاد أن يجلسَ كلَّ ليلةٍ على شرفةِ منزلِه ويشربَ ويشربَ حتّى الثّمالةِ، وعندها يبدأ بالصّراخ والغناء، يرقصُ تارةً و يبكي تارةً أخرى، تبعاً لمزاجِه، فينزعجُ منه جيرانُه أشدَّ الإزعاج، وفي كثير من الأحيانِ كانوا يشتكون إلى الشرطةِ فيجري تنبيهُه لتنقضيَ عدّةُ أيّامٍ بلا إزعاج بعد أن تتعهّدَ زوجتُه بعدمِ تكرارِ الواقعة، لكنّه لايلبث أن يعودَ لعادتِه القديمة بعد مدّةٍ قصيرة. وتذكرُ أنّنا طلبنا منكم تحليلَ الأحشاءِ بعد أن أجرَينا تشريحاً للجثّةِ بطلبٍ من أخوةِ المتوفّى بعد انقضاءِ ثلاثةِ أشهر على دفنِه، بعد أن اعتقدَ الجميعُ أنه ماتَ إثرَ جرعةٍ زائدةٍ من الكحول، فلقد شاهده جيرانُه يومَ وفاتِه يصرخُ ويبكي، ثمّ أخذَ يلوِّح بيدَيه لهم وهو يتلوّى من الألم، لكنّ الجيران توهّموا أنّها حالةُ السّكر نفسُها التي تتكرّر كلَّ مساءٍ، فلم يُولوا الأمرَ أهميةً، ثمَّ لاحظوا أنّه ارتمى على أرض الشرفةِ بلا حراكٍ وظنّوا أنه أخلد إلى النّوم نتيجةَ ثقلِ المشروب على وعيِه، لكنّه مع الأسف كان قد ماتَ. وُوريَ المتوفَّى الثرى بعد أن حضرَ الطبيبُ إلى البيت وكتبَ تقريرَه معلّلاً سببَ الوفاة بجرعةٍ عالية من الكحول بعد أن سمعَ من الزّوجة قصةَ احتساءِ الكحول يوميّاً وبكمياتٍ كبيرةٍ ومن دون أن ينتبهَ لأعراضِ التسمُّم.
.
ونظراً لعلاقةِ الزّوجة السيّئة مع أشقّائهِ الذين سمعوا الكثيرَ عن مغامراتِها العاطفيّة فقد ادّعَوا عليها في الأمنِ الجنائيِّ بتهمةِ قتلِ أخيهم للاستيلاء على البيت والسيّارة بعدما كتبَ كلَّ ما يملك لها، فقرّرتُ إثرَ ذلك طلبَ تشريحِ الجثّةِ وتحليلِ الأحشاء بعد انقضاءِ نحو ثلاثةِ أشهرٍ على دفنِه.. لقد كانت غايةً في التعقيدِ عمليةُ نبشِ القبر واستخراجِ الجثّة المتهتِّكةِ وتشريحها وارسال الأحشاء للتحليل. وبعد أن أرسلتُمُ النتيجةَ وأخبرتُم بأنّ الوفاةَ كانت بسمِّ الزّرنيخِ توسَّعَ التّحقيقُ، ليتبيّنَ لاحقاً أنّ زوجةَ المتوفَّى هي القاتلةُ بالاتّفاقِ مع عشيقِها الذي خطَّطَ ودبَّر، فلقد كانت على علاقةٍ غراميّة مع محتالٍ من أصحابِ السّوابقِ معلّلة ذلك أثناءَ التحقيقِ معها بعدمِ اكتراثِ زوجِها بها، واهتمامِه فقط بشربِ الكحولِ والسُّكر والعربدة، وهي الجميلةُ الأنيقة التي يهواها كلُّ مَن يراها، فقرَّرت قتلَ زوجِها بالاتّفاق مع ذلك الرّجلِ الذي قام بجلبِ سمِّ الزرنيخ ووضعَه لها في زجاجةِ “الويسكي”. ثمّ ما إن جلسَ في الشرفة حتّى أغلقت عليه البابَ كيلا يستطيعَ الخروج منها، ثم غادرَتِ المنزلَ لساعاتٍ، لتعود إليه لاحقاً وتجدَ زوجَها مرميّاً على أرض الشرفةِ مفارقاً الحياةَ ولتبدأ تمثيليةَ الحزنِ والنحيب.
قال رئيسُ القسم: ممممم..وماذا حلَّ بها بعد ذلك؟ ابتسمَ النائب العام و قال: إنّها في السّجن، وقد حُكمَ عليها وعشيقِها بالإعدام شنقاً، وخُفِّفَ الحكمُ إلى السّجن المؤبَّد. شردَ رئيسُ القسم للحظات يستذكرُ ساعة وجودِ تلك الأرملة الحسناء الشرّيرة في مكتبِه متحسِّراً على شبابِها الضّائع.
.

*أديب وكاتب .. وزير التعليم العالي السابق- سوريا

.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى