واقع الأغنية المحلية .. مراد داغوم

واقع الأغنية المحلية ..
تطرق الضيفان إلى كل ما ارتأياه متعلقاً بواقع الأغنية المحلية. وقد امتازت مداخلات الأستاذ “عبد الرحمن الحلبي” بعرض همومه مع واقع الأغنية أكثر من تطرقه لهذا الواقع ذاته. فكان أول مطلب له هو إيجاد جهة “مراقبة” تحت عنوان لجان سماع أو قراءة كالتي في إذاعة دمشق.
.
أي أنه علينا مراقبة كل ما سيصدر من أغنيات خاصة قبل أن نسمح بتسجيلها. وهذه وصاية لن تقبلها أية جهة منتجة، ناهيك عن الكاتب والملحن والمغني. كما لاحظت أنه وصف كل ما يتم إنتاجه بأنه (صفر) فنياً ومع ذلك فهو يستغرب أن ينتشر بسرعة على السوشال ميديا، وهذا ما أشرت إليه كثيراً في مقالاتي السابقة أن المنتوج الفني يجب أن يكون مستقلاً تماماً عن (المفاضلة) وعن (التقييم) المنفرد، وأن ينحصر الرأي بـ: أعجبني/لم يعجبني. إذ لا حق لأي جهة كانت بمحاكمة المنتوج الفني، بل ينحصر دورها في تبنيه أو إهماله. تحديد نجاح عمل فني ما ليس مرتبطاً برأي نخبة فنانين، بل بالناس التي تتلقى هذا العمل. على من يحاكم العمل الفني أن يقوم بإنتاج عمل مواز ويطرحه كبديل وأن ينال هذا البديل على رضى الناس التي ستتلقاه. وغير ذلك هو مجردهجوم لايقدم ولايؤخر، إذ لا سلطة لأحد على الذائقة العامة.
.
.
لذلك أطالب كل من سجل عملاً في إذاعة دمشق أن ينشره على السوشال ميديا ويقارن بنفسه بين عمله وبين تلك الأعمال التي تصل إلى ملايين المشاركات، ويستعرض عضلات فنه أمام الجمهور مباشرة. النتيجة معروفة سلفاً: أقل من واحد بالمئة بكثير! إذن، المشكلة ليست في الإعلام، لأن الأغنية التي تسمونها “هابطة” لم تصل إلى شهرتها من خلال الإعلام، وعليكم البحث عن أسباب أكثر واقعية لهذا النجاح قبل إطلاق الأحكام. ثم تطرق الأستاذ عبد الرحمن إلى “التوزيع الموسيقي” الذي وصفه أحياناً أنه ركيك..
.
حسنا، لماذا وافقت على هذا التوزيع؟ لو كنت مكانك صديقي الأستاذ عبد الرحمن لسحبت نصي. ولم ينج مهندس الصوت من اللوم، وهنا أيضاً أقول: عند أي نتيجة لا تلقى قبولاً من أحد أصحاب العمل (كاتب، ملحن، مطرب) يمكنه الاعتراض وإيقاف العمل وهذا أفضل من أن نوافق على عمل تم تنفيذه بإمكانات ركيكة، وإلا فنحن مشاركون بهذا الخلل ولا حق لنا باللوم على أحد. لتعود المذيعة فتسأل عن تأثير الميديا هنا تملكني استغراب شديد، هل يحتاج تأثير الميديا إلى سؤال؟ والمشكلة أن الضيفين تباريا بالإجابة التي بالتأكيد لن تصب في صالح الوصول إلى حقيقة واقع الأغنة المحلية. ضرب الأستاذ عبد الرحمن مثال بأغنيات أم كلثوم التي تنال 400 ألف مشاهدة مقابل ملايين المشاهدات للأغنيات “الهابطة”!…
.
كانت إجابة المذيعة صحيحة 100% وهي أن الجيل اليوم مختلف .. ولكن هذا لم يقنع الضيوف، بل طالب الأستاذ عبد الرحمن بإعادة توزيع الأغنيات القديمة كبديل عن “الهابطة” !!! فتساءلتُ: منذ 50 سنة ونحن نستمع إلى قديم تمت إعادة توزيعه، فهل نبش الدفاتر العتيقة سيوقف حالة التدني المفترضة؟ لماذا لم تتوقف إذن؟ ثم تساءل الشاعر: لا أحد يعرف من هو محمد محسن! حسناً .. عندما أعاد جورج وسوف غناء “عيون القلب” وانتشرت باكتساح فظيع، مَن مِن الجمهور عرف من هو ملحنها؟ أو من اهتم به أصلاً؟ أو بماذا تفيد معرفتهم بذلك؟ وهل اهتم الجمهور بملحن “وحشتني” بعد أن نجحت جماهيرياً عندما غناها نور مهنا؟
من يعرف من هو “نجيب حنكش” الذي غنت فييروز من ألحانه الأغنية الأشهر “أعطني الناي وغنِّ”؟ وأخيراً: هل إصلاح حال واقع الأغنية المحلية يكون بالتوجه إلى ما سبق إنتاجه لنكون سلفيين في الموسيقا؟ أم بأمر آخر يا ترى؟ عاود الأستاذ عبد الرحمن شرح مشكلته الخاصة مع نص له تمت الموافقة عليه ليغنيه المرحوم “رفيق السبيعي” ولم يتم تسجيله حتى اليوم، وإني وإن كنت أتعاطف مع الأستاذ عبد الرحمن إلا أنني لا أجد أن هذا هو سبب التدني “المزعوم” للأغنية المحلية، بمعنى أنه لو تم تسجيلها لبقيت تلك الأغنيات “الهابطة” هي المسيطرة. مع تحفظي الدائم على وصم الأغنيات المعاصرة بالهبوط والتدني لأنني كما أسلفت ضد محاكمة العمل الفني وترك ذلك للجمهور، وضد المفاضلة بأي شكل كان.
.
أما الأستاذ حسين علان، فقد أكد عدة مرات على أن السبب الأساسي لتدني الأغنية المحلية هو تأسيس الجمهور منذ المدارس الابتدائية، وقد كنت أنا من أنصار هذه الفكرة سابقاً إلى أن اكتشفت أنها غير مؤثرة بالموضوع، فالمجتمعات في العالم كله –وقد ضرب الأستاذ حسين عدة أمثلة عن أوروبا- هذه المجتمعات، بالرغم من تأسيسها لطلاب الابتدائي بعلم الموسيقا، إلا أن قوائم الاستماع العالمية تنحصر في أغنيات الراب والهيب هوب، وهي من أسوأ أنواع الغناء على الإطلاق، ويتم تنفيذها رقمياً وبعدد محدود من أبسط الأصوات.
.
هذا يعني ان التأسيس هو أيضاً ليس (كالنقش في الحجر) كما علمونا! ليعود الأستاذ حسين ويطرح الإعلام السوري كسبب رئيسي في عدم إيصال الفن الجيد إلى الناس. كما لو كان الإعلام السوري شركة إنتاج عالمية يتابعها الملايين حول العالم ! إن شهرة فؤاد غازي لم تكن من الإعلام السوري وحده، ففي الثمانينات لم يكن اللبنانيون يتابعون التلفزيون السوري، ومع ذلك نجحت أغنية (بستان ورود) في لبنان أكثر منها في سوريا. عندما كتب (جورج الخوري) في مجلة الشبكة يستعرض غرامه وعشقه لفن الفنان السوري الكبير (أديب الدايخ) في سبعينات القرن المنصرم، لم يكن التلفزيون السوري آنذاك يبث أغنيات هذا الفنان! ولا التلفزيونات العربية، فكيف وصل فنه إلى لبنان والعراق ومصر؟!
.
ماذا لو بث التلفزيون السوري أغنيات مهرجان الأغنية العربية الذي أقيم في دمشق سنة 2000 (بحسب الأستاذ حسين)؟ هل سيرمي الجمهور السوري الشاب أغنياته المفضلة في سلة المهملات ويلاحق تلك الأغنيات؟ ما الدليل؟ ما هي الالإمكانات الجمالية المتوفرة في تلك الأغنيات والتي ستجذب جمهور الشباب السوري إليها؟ علماً أن الضيفين اتفقا على أن توزيع الأغنيات الهابطة رائع، كيف سيقارن الجمهور الشاب أغنيات المهرجان بأغنيات نجومه المفضلين؟
.
توجه الضيفان أيضاً إلى لوم دائرة الموسيقا في إذاعة دمشق أيضاً، وقد كررت مراراً أن هذه الدائرة هي الجهة المنتجة الوحيدة في سوريا التي تتبع للقطاع العام، والمعروف أنه للجهة المنتجة دائماً ثوابتها التي تنظم عملها، وهذه الدائرة تتيح لجميع الملحنين والكتاب والمغنين أن يحظوا بفرصة تسجيل أعمالهم، فإذا وجدنا أنه خلال مسيرة ثلاثين سنة لهذه الدائرة لم نسمع إنتاجاً مقبولاً فهل كانت الدائرة تنتج أغنيات لجمهورية موزمبيق ولمطربين هنود وملحنين كوالالامبور؟ أما ما هو قبل هذه الثلاثين سنة، فقد كانت هناك استثناءات قليلة عندما يتعلق الأمر بنجوم كبار مثل المرحوم فهد بلان والمرحوم فؤاد غازي، بقية نجوم الثمانينات تمكنوا من إيصال أغنياتهم للجمهور ولكنها للأسف لم تكن أغنيات سورية، بل كلها تم تلحينها وتسجيلها في مصر.
.
النجم الوحيد الذي حقق جماهيرية في السبعينات هو الأستاذ (موفق بهجت) أطال الله عمره، ولكن للعدل نتساءل: بالرغم من جماهيرية أغنياته، هل كانت هذه الأغنيات مقبولة من المجتمع الفني المتزمت آنذاك؟ أم أنهم كانوا يتظارفون بتقليد الأستاذ موفق في أغنية (يا صبحة) ويقللون من قيمتها الفنية علماً أنها دخلت كل بيوت السوريين ولاقت نجاحاً منقطع النظير. حتى ولو تم تكليف إحدى الفضائيات السورية بنقل حفلات دار الأوبرا بالكامل كما اقترح الأستاذ حسين، هل من ضامن لأن يترك الجمهور الشاب أغنيات نجومه ويلهث وراء حفلات الدار؟ أما عن وجود سبونسرات كرجال أعمال أو شركات وما شابه، هل من ضامن أن تبقى هذه الشركات أو هؤلاء الداعمين على الحياد؟ ما الضامن أنهم لن يكون (واسطة) لأحد، بعد طلبالأستاذ حسين شركات إنتاج خاصة لا تتعامل بالواسطة، وبرأيي أن هذه الفكرة هي أقرب للخيال العلمي، وقد تحدث الأستاذ عبد الرحمن عن أن الفن الجيد لا أرباح فيه تشد الشركات المنتجة.
.
إلى هنا سأواجه تساؤلاً متوقعاً: لقد أغلقت كل طرقات حل مشاكل واقع الأغنية المحلية، فما الحل إذن؟ حسناً، إذا كان الاستعراض السابق للمشاكل قد استهلك ثلاث صفحات، اسمحوا لي أن أؤجل ذلك لمقال قادم.
.
*مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا
لمتابعتنا على فيسبوك : https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews