رأي

“هِز” الوطن لنشمّه .. غسان أديب المعلم

لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قوي، فكلّ ماهو مطلوب منهم وطنيّة بدائية يمكن اللجوء إليها حين يستلزم الأمر لإقناعهم بقبول ساعات عملٍ أطول أو حصص أقلّ من السلع التموينيّة.

كثيراً ما استوقفتتي اقتباسات الكتّاب من المفكّرين والأدباء في مسائل الوعي وتحديده وتحجيمه من ناحية القوة والضعف والتوجّه والمآل والهدف، وأغلب الأحيان يأخذنا الشرود بعيداً حول ماهيّة أن يُدرك الإنسان الصواب ولا يفعل!، أو أن يعلم الإنسان ويكتفي بالصمت!.

أو أن يكون المنطق والحجّة والبرهان واضحاً جليّاً كالشمس، لكن هالة الكسوف تحيط بها من كلّ جانب وتمنعها من إرسال النور، بل وأكثر من ذلك حيث البقاء في “”نعيم” الظلام!.

فاليوم، كلّ الأحاديث والاهتمامات والأقوال والأفعال منصبّة بشكلٍ غالبٍ حول الزلزال وتداعياته وارتداداته في وطننا، ومن كافّة النواحي – سياسيّاً، اقتصاديّاً، اجتماعيّاً،..، ولغة “اللامنطق” تفرض ذاتها في كلّ الميادين!.

والمؤلم في هذا الفرض والتوجّه هو أنّ الدجاجة لم تستوعب أنها نكبة حبّة القمح، وأن الجميع سيكون على المذبح في نهاية المطاف!.

– سياسيّاً، كانت حالة الوعي والفطنة شديدة في كثير من الأمور، ولنأخذ جانبين منها:

أن تطالب حفنة من المرتزقة بزيادة الأحمال على كاهل هذا الشعب تذرّعاً بقوانينٍ سنّها السارق الأكبر والداعم الأكبر للإرهاب في هذا العالم، وبحجّة خلاص هذا الشعب من الظلم والظلّام، فهي كالمستجير بالرمضاء من النار..

وعي السوريّين كان أعمق، بتمييز المُعارض من الخائن، وبتمحيصٍ بين المحبّ والعميل، والغالبيّة استنكرت وشجبت مثل هذه الظواهر التي لم تعد غريبة لتكرارها .. لكن التكرار بقي على حاله بالوصف عند مرتزقة السلطة التي لم تنفكّ يوماً عن وصف هؤلاء بـ”المُعارضة”.

وشتّان شتّان بالأوصاف، وهيهات أن تنطلي الحيلة على أنّ أمثال هؤلاء هم مُعارضين، والحقيقة الدامغة أنّ أكثر المُستفيدين من تعويم هؤلاء تحت هذا التصنيف هي السلطة، وأكبر الخاسرين هو الوطن عندما لا يمنح الحقّ لقيام وإنشاء معارضة حقيقيّة وطنيّة توازن كفّتي الميزان على أقل تقدير لبناء ماتهدّم وإصلاح الخراب، رغم أنّ مطلب الحقّ أن تكون كفّة ميزان الشعب هي الراجحة..

الجانب الثاني كان في جسور المساعدة – الدوليّة بشكل عام والعربيّة بشكلٍ خاص – ومجدّداً يظهر الوعيّ السوريّ بالتفريق بين تصرّفات الدول بين بعضها البعض في حال الكوارث، وفي أسوأ الأحوال بأنّ لا مكان لمهبط طائرة أو ثغرة حدودية إلّا برضا العم سام ومن معه، وبين الانتصارات السياسية التي يتبجّح بها مرتزقة السلطة التي ما انفكّت يوماً أيضاً عن التهديد والوعيد بأنّ جميع الكائنات على سطح الكرة الأرضيّة ستأتي زاحفةً نادمة مطأطأة الرأس تدفع الجزية وهي صاغرة!

ومرّة ثانية، الحقيقة الدامغة أننا نحتاج فعلاً للتصالح، لكن هذا الصلح أولى بين مكوّنات الداخل، بين السلطة التي تعيش في واد، وبين الشعب بأكمله في الوادي المقابل، أو بالدرك الأسفل، ويصحّ التعبير ولم يكذب، فالجسر الوحيد الذي يمكّن الوطن من العبور إلى ضفّة النجاة هو الجسر الداخلي أوّلاً وثانياً وعاشراً وللأبد، ومقياس القوّة الطبيعيّة لأيّ دولةٍ مفترضة هي المواطنة ولا شيء سواها.

– اقتصاديّاً، لا جديد يُذكر من استمرار الفشل بأشكالٍ وألوان عديدة، ومهما بلغت حبكات الحكايات والسيناريوهات عند المرتزقة التي تتوهّم بأنّ للشعب ذاكرة السمك!!، فالأمر بوعيّ السوريّين محسوم، وتفسير الماء بعد الجهد بالماء هو المتوقّع عند السوريّين عند تبريرات السلطات، ولا يستغربنّ أحد ما أن يكون الزلزال فقرة أو بند من قانون قيصر!!.

فمن يزرع البصل ويصدّر البصل ومن ثمّ يستورد البصل فعلى دنياه السلام، فما حال المنطق عند تحديد غرامات وزن قرص الفلافل الشعبيّ وسعره!!.

– اجتماعيّاً، ظهرت صورة السوريّين الحقّ الغالبة الوازنة بتدافعهم نحو بعضهم البعض من كافّة الأطياف والملل والتوجّهات والمناطق، وظهر جليّاً بأنّ السوريّين كتلة واحدة جمعها الطيب والانتماء والنخوة والضمير والمصير، داخل البلاد و خارجها مع أصدقائهم، وأنّ الجميع يعلم بأنّ على عاتقه واجبات وأحمال، لأنّ الغياب المؤسساتي سيظهر على حقيقته أكثر فأكثر مستغلّاً الكارثة وممتطياً موجتها كما كلّ خسارة ونكبة ونكسة، ليتدافع الجميع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كجسدٍ واحد وعلى قلبٍ واحد مقدّماً الغالي والنفيس وما استطاع لملمته رغم الحاجة والفاقة والعوز والعجز، وبكبرياءٍ وعفّة قلّ نظيرها، وقلّما تشهدها الأمم كما تشهده سوريانا، ليثبت للعالم أجمع بأنّه يستطيع حين يريد، وأنّه حيٌّ لا يموت، مهما تعاظمت عليه قوى العدوان الخارجيّ مع زبانيتها في الداخل، والتي تستهدف وعي هذا الشعب وكرامته كهدفٍ نهائي على طريق الانهيار والتقسيم بعد الخراب..

– الشعب السوريّ يعرف ويعلم ويعي نكبته، وقد يكون الجميع بحاجة لعملٍ إضافيّ ومعونات غذائيّة، لكنّ كلّ ماحدث لم ولن يؤثّر على قضيّته الأولى بأنّ تكون سوريا بأفضل حالٍ من القوانين والمواطنة، وأنّ الحلّ والأمان لن يكون إلّا بقيام دولة مؤسسات حقيقية لا هياكل أو مزارع أو كانتونات، وأنّ الأساس واللبنة الأولى موجودة عبر هذا الشعب، وبما أننا في محضر تاريخ ولادة أحد السوريّين العظماء – أنطون سعادة – فلا بدّ من التذكير بجملته الشهيرة، بأنّ لدى هذا الشعب قوّة يستطيع من خلالها تغيير العالم بأسره لحظة القيامة، والقيامة تحتاج الوعي، والسباق مع الزمان بأنّ تسبق قيامة الوعي قيامة الجوع، لأنها – أي الأخيرة – ستزيد الدمار والعبث مع نكباتنا المستمرّة، ونحن على فالق الجيولوجيا الأخطر في هذا العالم، وهناك فالق موازٍ بالخطورة إن لم يكن أكبر، إنه فالق الجوع والتهميش والظلم والظلام.

فعلى أيّ جانبيك تميل!؟.

هذا الوطن “المهزوز” أصلاً، ليس بحاجة الزلزال لنشعر به، لأنه في قلوبنا جميعاً، لكنّ هزّته الأخيرة والتي نأمل وندعو بأن تكون الأخيرة، نتمنّاها أن تجعلنا نشمّ ونلتمس الحلول قبل أن ننهار جميعاً، وبأن ندرك أنّ لا نفع قبله إلّا وعينا بمن أتى سوريا بقلبٍ سليم، وسلامتك يا وطن ..

 

إقرأ أيضاً .. “مجرّد فوارق” ..

إقرأ أيضاً .. “حبل الكذب .. طويل” ..

 

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى