هل أصبحت سوريا بين فكي كماشة..!؟.. يزيد جرجوس ..

في بدايات الحرب على سوريا وخلال العامين الأولين منها، وكما اتضح لاحقاً بقراءة راجعة (يبدو أن الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية كانت سبقت إليها)، كان الهدف تمزيق الجغرافيا السورية من الوسط، بحيث تتم السيطرة من قبل المتمردين على المحافظتين الأكثر محورية في الخريطة السياسية والاقتصادية السكانية لسوريا (حمص وحماه). لم يكن ذلك فقط لأهمية تلك المنطقة، ولكن أيضا لإدراك المهاجمين لأمرين اثنين، والمهاجمون لا أقصد بهم هنا التجمعات المسلحة والخلايا التي نظمت بغرض إشعال “ثورة” مسلحة، ولكن من كان يخطط ويستخدم كل هؤلاء، وأنا كعادتي لا أميل لاستصغار الخصم أو العدو واتهامه “بعدم المعرفة”، بل على العكس من ذلك أقدر وأعترف بأن المهاجم كان قد أعد عدته جيداً، وخطّط لاستخدامها على الوجه الأمثل، ووضع في مخططه كعادة العقل الغربي السياسي الأمني، مجموعة كبيرة من الخطط البديلة المتتالية، والتي يتم الانتقال فيها بمرونة من واحدة إلى الأخرى حسب تطور الظروف والمعطيات. تلك الخطط البديلة بالمناسبة ليست بالضرورة تراجعية في أهدافها وآثارها التدميرية على “العدو”، لا بل قد يحمل بعضها ما هو أدهى وأشد تأثيراً وحسب إنضاج المحيط المطلوب.
كان الأمر الأول الذي أدركه المهاجمون هو صعوبة الإطاحة بالسلطة الحاكمة وبمؤسسات الدولة من خلال الشارع، فالبلد كان يعيش حالةً من النهضة الاقتصادية والاجتماعية، مع معدلات تنموية عالية بالاقتصاد وبالعنصر البشري، كان يصعب في ظلها طرح ما دأبت “الانتفاضات الشعبية” على طرحه من عناوين “المطالب المعيشية والفقر”، لذلك أيضا كان العنوان الأبرز الذي رُمي على أكتاف الشباب الذين اندفعوا للانخراط في “المظاهرات” والتحشيد هو “الحرية”، فهو من جهة يخدم الهدف التحريضي، ومن جهة أخرى شكّل عنواناً مطّاطاً وفضفاضاً يمكن إلباسه لأي كان مع قليل من الرتوش والتبهير.
أما الأمر الثاني الذي أخذه المهاجمون في عين الاعتبار وهم يخططون لتمزيق سوريا من الوسط، هو صعوبة، إن لم نقل استحالة، التحرك عسكرياً في العاصمة دمشق المحمية جيداً في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي تبدل نسبياً خلال السنوات اللاحقة مع تدحرج الخيارات وتبدل الأوضاع ونضوج ظروف ميدانية مواتية أكثر لذلك، ولكنها بالرغم من كل شيء فشلت في النهاية باختراق العاصمة، فكان أن أنتجت على الأقل الكمية الكبيرة من التدمير الممنهج لأكبر التجمعات السكانية في محيط دمشق وريفها مع حمص وريفي حمص وحماه وحلب على كل حال.
كان اللجوء للمنطقة الوسطى، وتحديداً مدينة حمص وجوارها السكاني، يحقق جملةً من الأهداف التكتيكية وربما الأكثر بُعداً في نظر المهاجمين، فالتوتر والاضطراب في حمص كان سيسبب، وهو سبب بالفعل، تخلخلاً في أريافها وصولاً إلى تدمر وحتى الحدود العراقية، وهو ما فسره بعض المحللين على أنه محاولة لفصل سوريا إلى شطرين، وإيجاد طريق تصل داعش العراقية بنظيرها في شمال لبنان، والذي لو قُـيًِـض له النجاح لكان شكل تحدياً بالغ الصعوبة بالنسبة لكافة أجهزة الدولة السورية، فذلك كان سيعطي قوة كبيرة للتنظيم الإرهابي ضمن جغرافيا مهمة، كما أنه كان سيعزل العاصمة السياسية عن الشمال والساحل السوريين، ويتركها في عزلة ميدانية سيصعب عليها تجاوزها، تماماً كما كان سيترك حلب، العاصمة الاقتصادية، معزولة في الشمال ومن كل الجهات، بما سيضمن انهيارها اقتصاديا ومعنويا، مع إبعاد مناطق القمح والنفط عن سيطرة الحكومة المركزية. ببساطة كان كل ذلك سيشكل أكثر “النجاحات” أهمية بالنسبة للمعسكر المُهاجِم، حيث سيضمن تقسيم سوريا ودفعها للتدمير الذاتي.
ضمن هذه السياقات الميدانية الاستراتيجية ركزت الدولة على الوسط في قرارٍ كان يحمل في طياته الكثير من التضحية، وخاصة في الأطراف ميدانياً مع تدحرج الملفات الساخنة في وجهها، وتحديداً كما يبدو لمواجهة الاحتمال الأكثر خطورة، إذ لا يمكن تصور قدرة مؤسسة عسكرية في أي بلد في العالم، وهي تتمكن من احتضان الجغرافيا كاملةً وفي كل الأوقات، بمواجهة الاضطراب المُعمَّم والمدعوم من كل الدول المحيطة، أو على الأقل المُيسَّر من قبلها. صحيح أن الأزمة المدفوعة للتحول إلى حرب شاملة وجدت صعوبة كبيرة في الأشهر الأولى للانتشار على مجمل الجغرافيا، ولكنها ومع تقدم الوقت المُعبَّـأ بالتحريض والتمويل والتسليح وتمرير المقاتلين الأجانب بصورة المرتزقة أو المجاهدين أو حتى المتعاطفين، نجحت في الوصول إلى خواصر معظم المدن والتجمعات السكانية الكبيرة بصورة بدأت تشكل تحدياً بالغ الصعوبة على مجمل عمل مؤسسات الدولة وأجهزتها العسكرية والمدنية منها، بما في ذلك تعرض البيئة السكانية للابتزاز والتوريط للانخراط في معمعة المعارك أو التهجير القسري بكل ما يحمله من خطورة على المناعة الميدانية السكانية عندما تُـفَـرَّغ الجغرافيا من أهلها.
في خضم هذه التطورات وفي محاولة جادة للتصدي لها، وإفراغها من احتمالاتها، برزت إلى السطح فكرة “إدلب” كمناورة لتجميع المتمردين والمقاتلين الأجانب المنضوين في تجمعاتهم ضمن بقعة جغرافية واحدة، تضمن توحيد خط المواجهة (جبهة المعارك) وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة لأي معركة دفاعية، وخاصة بالنسبة لجيش نظامي يقوم بحماية عمقه الاستراتيجي الذي لا يملك سواه. بدت تلك الخطوة في مراحلها الأولى ناجحة وتعمل بكفاءة وقد تتسبب بضغط إضافي على المعسكر المهاجم ورأس حربته تركيا، بحيث يشكل ذلك التجمع الكبير للمرتزقة والإرهابيين على حدودها تحدياً ليس بالقليل، خاصة مع الرغبة المتوقعة للكثيرين منهم بالانتقال إلى داخل الأراضي التركية أو حتى منها إلى دول أوروبا، وهذه النقطة تحديداً حظيت باهتمام الحكومة التركية لاستخدامها أيضاً في الضغط على دول الاتحاد الأوروبي الرافض الدائم لانضمام تركيا الساعية الدائمة لنيل “شرف عضويته” المذلة لها بسبب كل ذلك الرفض.
في هذه الأثناء تعرضت سوريا لما أعتقد أنه المناورة المعاكسة الأكثر دهاء، والتي تبين من التطورات اللاحقة أنها مَـكَّـنت المهاجمين من إحكام الخناق عليها بصورة لم تتمكن حتى الساعة من التملص منها، ولكنها نجحت فقط في إبطاء آثارها التي تتزايد يوما بعد يوم.. إنها وضع يد الأصيل في الهجوم وهو الولايات المتحدة على المنطقة الشرقية الغنية بالنفط والزراعة، في خضم انهماك الدولة السورية بإنهاء ملفات الوسط وحلب والجنوب بما فيه محيط العاصمة الذي خرج جزء كبير منه عن السيطرة واقترب حتى قلبها أحيانا.
صحيح أن الولايات المتحدة استخدمت بعض التنظيمات الكردية في ذلك، وهي كانت هيأت البنية الفكرية عندهم من تسعينات القرن الماضي وانطلاقاً من العراق، وكرست ذلك تماما عقب احتلاله ومنح الأكراد ذلك الحيز الكبير من المساحة الجيوسياسية في شماله، والتي كانت بالضرورة ستنتقل مفاعيلها بالإشعاع إلى دول الجوار، وخاصة خاصرتها الأضعف سوريا المنهكة بالحرب. ولكن الوجود الأميركي بحد ذاته وبرغم رمزيته شكل الضامن والحامي لكل ذلك المشروع “الكردي” فالمعطيات من الأرض تؤكد الميل الشعبي الكبير لصالح الدولة وقضيتها، بما يضمن قدرتها على التقدم ميدانياً لحسم الفوضى وتَزَعزُع السيادة على الأرض السورية، ولكن الوجود الأميركي هو ما يؤخر ويمنع ذلك حتى الساعة، لكون الأطراف كلها غير مستعدة لمواجهة مباشرة مع القوة الأميركية المتحمسة لتدمير الدول بأسلحة التدمير الشامل، وتحويلها لتجمعات فاشلة من الطوائف والعرقيات.
مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في سوريا بصفتها المرحلة الحالية من الحرب عليها، متخذة من خسارة الجغرافيا آنفة الذكر مادة رئيسة لها، يبدو أن ما يمكن وصفه بالمرحلة الأكثر جدية من الحرب بدأت تظهر على السطح، وخاصة مع تطورات المشهد العالمي الأكثر من مدهشة من خلال المواجهة الكبير بين روسيا والغرب التي نشبت عسكريا على أرض أوكرانيا مطلع العام الحالي، وبدأت ترخي بظلالها على مختلف الملفات. يبدو أن العدوين المركزيين لسوريا (“إسرائيل” والحكومة التركية) أخذا المبادرة للاستثمار في الصراع الدولي الحاصل ومحاولة المقايضة في الملف السوري مع روسيا، فالأسابيع الأخيرة زخرت بتصعيد إسرائيلي بالاعتداء على العمق السوري مع تكثيف يومي لطلعات الاستطلاع والرصد الجوية في مختلف الأجواء السورية وخاصة الجنوبية، مع تحريكٍ لإرهاصاتٍ أخرى من خلال الأردن غير المستقل بقراره، وفي المقابل بدأت تركيا تتوعد وتعلن أنها تعد العدة لتحرك عسكري في الشمال السوري، جاء بيان مجلس الأمن القومي التركي يوم 26 نيسان الحالي ليعبر عنه بوضوح عندما تحدث عن سوريا بنقطتين منه قال فيهما بأن “العمليات العسكرية التي ستُنَفّذ على الحدود الجنوبية تشكل ضرورة لأمننا القومي، ولا تستهدف دول الجوار” وأن تلك العمليات “تهدف لتطهير المنطقة من الإرهاب”.. هذا الكلام العام والقابل للتأويل وللاستخدام، يوحي برغبة تركية في وضع اليد على المزيد من الجغرافيا السورية، أو على الأقل التلويح بذلك.
هذا كله يبدو أنه يضع سوريا بالفعل بين فكي كماشة ميدانية مجدداً، ناهيكم عن الملفات الاقتصادية الخانقة، فماذا تملك سوريا في جعبتها لمواجهة كل ذلك؟!.
- قامت القيادة العسكرية السورية بتحضير قوات عسكرية برية كبيرة في استشرافٍ مبكر لمآلات التحديات الميدانية واحتمالاتها المتجددة.
- في الأسابيع الأخيرة بدا أن هناك تحركاً عسكرياً جدياً باتجاه بعض المناطق في شرق سوريا، تحت عنوان “محاربة داعش” والذي أعتقد أنه يسعى بالحقيقة لاستعادة بعضٍ من حقول النفط التي تشكل وحدها العصب الأهم اليوم في مواجهة هذه المرحلة الشرسة من العدوان الاقتصادي. هذا التحرك يبدو أنه بالمقابل تسبب بتحريض الجانب التركي على التحرك، ربما بتوجيه أميركي لإعادة تشتيت الجهد العسكري السوري.
- التحالف المتين مع روسيا والذي تم التأكيد عليه بزيارات وتصريحات رسمية مع بعض التحركات على الأرض، لنفي أي تغير في التموضع المرحلي أو الاستراتيجي للحليفين في علاقتهما العضوية بمواجهة التحديات معا، بعد الكثير من التشويش المفتعل والذي سعى للترويج لفكرة الانشغال الروسي بالملف الأوكراني و”توجهها للانسحاب التدريجيي من سوريا لصالحه”، حيث أكد وزير الخارجية الروسي في مقابلة مع روسيا اليوم بتاريخ 26أيار “بقاء القوات الروسية في سوريا بناء على التنسيق مع الحكومة الشرعية فيها”، التي أكد لافروف دعم روسيا لها “في جهودها لاستعادة أراضيها بشكل كامل”.
- الكثير من الخطوات التي يجب أن تتم على الصعيد الداخلي في سوريا من أجل رفع مستوى الاستثمار في الطاقات البشرية والمادية المتوفرة أو لنقل المتبقية في الداخل السوري، وهي ليست بالقليلة خاصة في الجانب البشري، والذي يمكنه بالإمكانات التي يمتلكها أن يحقق خروقات عدة في جدار الضائقة المتزايدة على الشعب والحكومة السوريين، شريطة تغيير جدي في عددٍ من آليات التعاطي الروتيني مع الاستحقاقات والملفات.
إن استغلال تركيا و”إسرائيل” لظرف الحرب في أوكرانيا، ومحاولة الاستفادة والاستثمار في هامش المناورة الذي أتاحته لهما تلك العملية العسكرية وخصوصا في العلاقة مع روسيا، بالفعل سيشكل تحدياً مهماً للدولة السورية، وهي ستكون قادرة على تجاوزه عندما تُحسِن استخدام كل ما لديها، وهي متوجهة لفعل ذلك على الأغلب.
كاتب سياسي – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب