نهضة من تحت الرماد .. غسان أديب المعلم

لكلّ إنسان وطنان، وطنه الأم وسوريا ..
لم تقتصر هذه الجملة على وصف عالم الآثار الشهير “شارل فيرلو” فحسب، فمن هو معني بقراءة التاريخ وتتبّع الحضارات يعي تماماً هذه الجُملة الجوهريّة في حياة البشريّة، ويعرف أكثر قيمة هذا الإرث الحضاريّ وأثره على العالم أجمع..
فالحضارة تبدأ بالقيم الإنسانيّة والمساعدة بنشرها قبل بناء الأوابد والقلاع والعمران الهندسي وما يتّصل من المقوّمات الكثيرة للحضارة.
فعلى هذه الأرض كانت شجرة الزيتون الأولى في هذا العالم، وكان التحوّل البالغ الأثر عند الإنسان بالشروع بالزراعة بعد مرحلة الصيد، وكانت الانطلاقة التنظيميّة بالأبنيّة السكنيّة المُحاطة بسور، ومعها دخلت الصناعة حيّز الاهتمام متوافقة مع التجارة بأوّل اكتمالٍ للدورة الاقتصاديّة في العالم، فكانت صناعة السفن وأدوات الصيد والزراعة ونقل المنتجات إلى ضفاف دول حوض البحر الأبيض المتوسّط، وربّما أبعد من ذلك!.
ومع تلك الحداثة المُبهرة في ذلك الحين، كان لا بدّ من اختراع الأبجديّة الأولى – الصوريّة ومن ثمّ المسماريّة – في هذا الكون، ومعها تمّ التنظيم والتدوين، وتأسيس الدولة الحضاريّة الأولى، مع سنّ القوانين وخلق البرلمان وممارسة الحياة الديمقراطيّة والإصلاح الاجتماعيّ، وصولاً لإنشاء الدبلوماسيّة الأولى عبر تبادل رسائل السفراء مع من يحيط بالبلاد من أقوامٍ ومجتمعات نهلت من هذه الحضارة لقربها الجغرافيّ وإطّلاعها على مافيها..
فالإسهام الحضاريّ الإنسانيّ السوريّ كان الأول عبر التاريخ، والأكثر تنوّعاً من فن وعلم وفلسفات وشرائع وملاحم وأساطير وعبقريات وبطولات وإنجازات، وكان العطاء بغير حساب، ولعلّ أهمّ مافي العطاء كانت الشرائع المدنيّة التي ابتدعها السوريّون وأصبحت مُلكاً للعالم أجمع، فقد سبقت سوريا الدنيا بممارسة الديمقراطية والمساواة بين البشر، وفي وضع الشرائع والقوانين في كافة الأمور وتطبيقها.
- قانون /أورنمو/ عام 2110 ق.م.
- قانون /لبت عشتار/ عام 1930 ق.م.
- قانون /إيشنونا/ عام 1850 ق.م.
- تشريع -حمورابي- عام 1780 ق.م.
وبالإضافة للقوانين، كان ابتداع العلوم والفنون وممارسة الطب والعمليّات الجراحيّة، ومسح الأراضي وحفر الأقنية وجرّ المياه وتخزينها في الآبار، وإتقان الفنون الصناعية والخزفيّة وبناء القصور والمعابد والحصون ونحت التماثيل، واعتماد الثورة وحروب التحرير والسعي الدائم لتحقيق وحدة جماعات البيئة الواحدة في دولة مركزية قوية، وإنشاء المدارس والمعاهد التعليمية والمكتبات ووضع الفلسفات الاجتماعيّة المتسلّحة بالأدلة العقلية وممارسة مراسم وطقوس دينيّة تحمل في طياتها تفكيراً روحياً سامياً والدعوة الى المحبة والسلام.
فمن هذه الأرض تمّ اكتشاف النار والمعادن، وبدأت عملية تدجين الحيوانات، وعمليات استصلاح الأراضي، وصناعة المحراث والدولاب، وإنشاء صناعات الفخار والخزف والأسلحة والغزل والنسيج والأصبغة، ومن هنا تمّ تأسيس -علم الفلك- وإنشاء العملة والأوزان والمقاييس، وكانت سوريا السبّاقة في طرح مشكلات فلسفيّة حول أصل الوجود وفي عبادة الإله الواحد -إيل- أو -بعل- أو أي اسم آخر نسبة إلى المنطقة الجغرافية ولهجتها.
وتتالت الحضارات ممثّلةً بالدول الناشئة كسومر وأكّاد وبابل وماري وأشور ونينوى وآرام وكنعان وأنطاكيا وغيرها من المدن المزدهرة والمساهمة في الحضارة الإنسانيّة جمعاء.
فبعض الأبحاث تشير بوصول السوريّين إلى أمريكا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك حتى ماقبل كولومبوس!.
وبالتأكيد لست في وارد إثبات ذلك من عدمه، طالما أن الفكر السوريّ أثبت وصوله وجدارته عبر أسبقية المدارس الفلسفيّة عبر طاليس الفينيقي، ومن بعده زينون السوريّ مؤسس المدرسة الرواقيّة الأولى، وأول مدرسة تُعنى بأمور المواطنة وتعريفها وأحقّيتها وقوّتها، ويُضاف لهذا الشأن تصدير الأديان المختلفة مع اللغات والشرائع..
باختصارٍ شديد، التاريخ يأخذ شهادة الميلاد من هذه الأرض، وكذلك الحضارة، وعلى هذه الأرض ولأجلها قامت مئات الحروب وجثمت عشرات الاحتلالات على كاهل شعبها، وبين كل هذا وذاك، كان الإرث الحضاري المّتجذّر هو طريق الخلاص والحريّة برغم انتقال الملكيّة أو الوصاية من محتلٍّ إلى آخر أو فيما بينهما، وتكاد نقطة الضعف في أيّ بنيان قائم هو المواطنة، التي ستكون مفقودة بالطبع عند أي محتلّ، وتضيع بالتأكيد عند من يعتبر نفسه وصيّاً على هذه الأرض بحكم الدين على سبيل المثال، كما كانت الأمور في عهد الدولة الأموية، أو أثناء الاحتلال العثماني الذي كان أعتى من غيره ليس بفرض القوانين الجائرة فحسب، بل باعتماده على طمس الهويّة السوريّة ضمن القالب الديني وتبعيّة العامّة وانطواءها تحت عباءة السلطان.
ومع ذلك، ورغم كلّ المحاولات من جميع المحتلّين بقيت الهويّة السوريّة وبقي الإرث الحضاري الذي تناقلته الأجيال، وبقيت الشواهد الدالّة عليها رغم أن الأرض الجغرافيّة الأولى قد شابها وعابها التقسيم، إلى حين اعتبار الاستقلال وجلاء آخر مستعمرٍ عن هذه الأرض بمثابة المتنفّس وعودة الأرض إلى أهلها، لعلّها تقوم من جديد في بناء نفسها ولملمة أراضيها واحتواء شعبها في بنيان دولة كما أغلب البلدان التي عادت للنهوض من جديد رغم دمارها الشامل والكامل كما حدث في ألمانيا واليابان وإيطاليا، والتي كانت جميعها في طور البناء بذات زمن الاستقلال، ونجحت جميعها بفضل “الإرث الحضاريّ” الذي يمتلكه مخزونها لمئات وربما آلاف السنين، والذي مازال الهويّة الجامعة لمعظم سكّان البلاد ومدعاة فخرهم.
فيما وللأسف، وعلى المقلب المقابل، ظهر واضحاً بأنّ الاستقلال “المزعوم” في بلادنا كان حبراً على ورق، وأنّ الطرف الغالب في أغلب الصراعات على الحُكم بين الأحزاب والقوى كان يشوبه في بعضٍ منها الولاء لأجندة خارجيّة تريد الإبقاء على الاحتلال بطريقة غير مباشرة، تقصد في نهاية المطاف كياناً مصطنعاً يفرض هيمنته العسكرية والأقتصادية، والأهم الفكريّة، بمقابل أرضٍ جغرافيّة يفقد ماعليها من سكّان أقل مشاعر الانتماء إليها، بل يكفرون بها، لتبقَ كلمة سوريا مجرد كلمة تاريخيّة مرادفة لكلمة “أطلانتس” على سبيل المثال، وبأنّ هناك دولة كانت قائمة على هذه الأرض، واندثرت وتفكّكت وهرب سكّانها الأصليين لجوءً أو هجرةً لشتّى جهات المعمورة ولا يبقى حينها أثراً بعد عين لبُنيان اسمه سوريا..
اليوم، لايزال بقلب كلّ سوريّ وطنان، وطنه الأمّ سوريا بالواقع، ووطنه سوريا بمعناها الحضاريّ بالإرث وبالحُلم..
فبلاد الزيتون أضحت على حافّة المجاعة، وبلاد الفكر والأبجدية أصبحت منابر للأغبياء والمتملّقين ولاعقي الأحذية، وبلاد الصناعة صارت دون أدنى مقوّمات أوليّة لإعادة تشغيل حرفة، وبلاد التجارة الأولى، باتت في عداد الدول المديونة التي لن تقوم لها قائمة وليس لها وزن على سلّم التجارة العالميّ، وبلاد البرلمان الأول وممارسة الديمقراطيّة، ترزح تحت رحمة السلطات المتعاقبة التي لا تعرف أو تتجاهل ألف باء الديمقراطيّة والتشاركيّة والمواطنة، والبلاد التي صدّرت وأعطت الحضارة دون مقابل وصل بها الزمان لأن تصبح دريئة لسهام الحاقدين من كل حدبٍ وصوب، ومكان تصفية الحسابات بين الأعداء والأصدقاء، والبلاد التي كانت منارة العلم الأولى غدت في قعر التصنيف العلمي العالميّ!.
وعليه، لست من الداعين للوقوف على الأطلال والنحيب على ما آلت إليه الأمور وأن نجد خلاصنا بما مضى على الطريقة المُتبعة دينيّاً بأنّ خير البريّة ذاك السلف!، بل ما ذكرته ويذكره الكثير من السوريّين بأنّنا متشبّثين بإرثنا الحضاريّ، وقابضين على جمر الانتماء مهما حصل، ومؤمنين بأسطورتنا بأنّ الفينيق سينهض من تحت الرماد، وأنّ معايدات السوريّين بعضهم بعضاً بعيد رأس السنة السوريّة المُوافق لهذا اليوم دلالة على أننا لم ولن ننسى إرثنا، وأنّ خلاصنا بالفعل هو الهويّة السوريّة الجامعة التي يقوم بها مشروع وطنيّ يكون أساسه المواطنة والقانون والعمل والبناء والعلم، مُتسلّحاً بالإرث الحضاريّ الذي ذكرنا رؤوس أقلامه فقط، والذي قامت عبره دول كثيرة من تحت الركام، وآن أواننا أن ننفض ذرّات الرماد ولو عبر كلمة بالتفكير بأنّ سوريا مهد الحضارة الأولى، وأنّ لنا وطنان، سوريا التي نعيشها الآن، وسوريا إرثنا المكنون وحلمنا الذي لأجله سنحيا وتحيا سوريا ..
إقرأ أيضاً .. “السبيل الوحيد” من هانوي حتى كونيكو ..
إقرأ أيضاً .. “جردة حساب” ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter