|| Midline-news || – الوسط …
.
يشق صمت صدر الوقت، عواء ذئب بعيد، ولعلي أسمعه يقول: يا رب لم أكن أنا.. بل أخوته، وأحار بسؤالي، هل كان الذئب على سفينة نوح حينما شقت عباب الموت لتصل إلى برّ أمين على عشق الأغنيات، وكيف لذئب أن يرى فراخ القصيدة نائمة تحت جنح المواويل ولا يفترسها..؟
لم يكن الذئب إذاً من غدر بيوسف، ونوح لم يجلب الخائن معه، بل إن “نشازاً” ما أصاب الأغنية فشذ أخوة العزيز عن مقامها، وسكبوا فوق الجرح ملح، فلا تلم يعقوب الذي راح الحزن برؤاه إلى العدم، وكمن يسير على صراط مستقيم، تمشي الأغنيات نحو الفجر، كعذارى، يكشفن عن نهودهن لضوء الشمس ليغسلن بعضاً من وجع المسافة ما بين الحلم ويقينه.
في الغالب، يصير للذاكرة سطوة الجلاد على مسجونه ليلاً، وتجيد الذاكرة المصابة بذبحة حنين حادة حمل الروح إلى شاهق التمني، إلا أن الإياب مستحيل غالباً نحو التفاصيل العتيقة، فالباب الموصد بين اليقين وحلمه عال وثقيل، والطريق بين الحلم ويقينه مقطوعة، وتتراكم الأشياء المرعبة بين الـ “هنا” و الـ “هناك”.
فـ “هنا”، ثمة الكثير من الفرح المنتظر لبعض من الأشياء التي تزيد على الأغنية ألقاً، كالتوزيع الجيد للأدوار في اللحن بين الآلات الموسيقية، أو إعادة ترتيب الكلام بما يصعّد من قدرة الأغنية على النفاذ نحو عمق القلب.
و “هناك”، أشياء مثل قرنفل الحب، تخدر الحواس كلها عن التفكير باللاشيء، واللاشيء فلسفة صعبة المراس، لا تروض بالكتابة، وتصير المفرادت عصية على النص، فلا أفهمه ولا يفهمني، ويضيع الوقت فجأة، وأنا أحاول معرفة في أي وقت أنا، أو في أي فصل، كأن الأشياء تشابهت حد التناسخ، أو تناسخت حد التيه.
ويبقى الفارق الشاسع بين الـ “هنا” و الـ “هناك”، كسوط يجلد كل من يفكر بالبحث عن التفاسير المقنعة لهذه المعادلة الخارجة عن الفيزياء، المتمردة على الرياضيات، والغامضة اللغة.
وحده القلب، مبتدى الأنهار ومنتهاها، فالفرات يخرج من زاوية القلب اليسرى، والخابور من يمناه، يذهبان بالدم إلى آخر النص، ويعودان بالنص إلى حجيرات القلب الأربع، وأربع حجيرات لا تكفي لكل أولائك الذين مازالوا يتسكعون في أزقة الذاكرة كل ليل.
فيهمس ظلي قبيل آخر النص: إذاً القلب كسفينة نوح التي حملت ما يبقي الحياة، وهربت به من طوفان الرمل.
أقول: ونوحٌ يا سيدي الظل ينوح على رصيف الميناء ويرمي في البحر والبر رسائله علها تصل إليهم، ليعرفوا جهة الإياب.
.
*كاتب وصحافي من سوريا
*لوحة نوح التاريخية – سان ماركو فينيسيا