بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا .. إنجازات أم هزائم .. يزيد جرجوس

إذا كان التناول الشعوري والحماسي للقضايا والملفات السياسية نافعاً في المراحل التكتيكية وخاصة على مستوى استنهاض الرأي العام ومحاولة بث الإحباط عند الخصوم و”الأعداء”، إلا أنه يتخذ منحى خطراً في الوقت نفسه إذا لم يكن مبنياً على القراءات الواقعية المتبصرة ناهيكم عن الجهد المطلوب والمستحق، فالأمل الخادع يولد الإحباط، والتهور يودي إلى الانكسار، تماماً كما سوء الانتظار بسلبية.
من هذه الموَجِّهات سأحاول إلقاء نظرة على الاشتباك العالمي الحاصل منذ نهايات عام 2010 وحتى اليوم، وخاصة فيما يتعلق بأهم ركنين دارت فيهما رحى الأحداث والمواجهات سياسياً وميدانياً بصورة مفجعة أحياناً، سوريا وأوكرانيا، ومن زاوية محددة هنا لأن الدراسة العامة يلزمها كتب ستجود بها اجتهادات المفكرين السياسيين لاحقاً، فهل كانت هذه المعارك الضارية بين الغرب والشرق سنتنتهي إلى أي نتيجة يمكن أن تحدث دون الوقوع فيها، وهل آلت المستجدات التي تلعب فيها روسيا الدور القيادي والحاسم، إلى هزائم لها ولحلفها العريض في مواجهة معسكر الناتو أم استطاعت روسيا تحقيق تغيرات جدية في مصلحة أوراسيا وبقية دول وشعوب العالم المظلومة في الشرق والجنوب، وخاصة هنا في ملف المآل الذي وصلت إليه المعركة في أوكرانيا.
مع تقدم الترتيبات وتشابك العلاقات حول ملفات الطاقة وحقوق نقل النفط والغاز الروسيين في المدى الحيوي الأوراسي ومنه إلى العالم، برزت في الفترة الماضية اتفاقيات روسية مع دول مثل تركيا وأذربيجان تعطي هاتين الأخيرتين مكانة ومكاسب كبيرة باعتمادهما كنقطتين لتجارة الطاقة الروسية وكممرين لها، هذا بعد أن كانت اتفاقات كبيرة قد حصلت بين روسيا والصين وروسيا والهند وغيرها كلها أدت إلى تغيرات درامية في شكل واتجاه تحرك الطاقة في العالم بصورة ستؤثر بشكل كبير على توجهات وإمكانات التنمية والنمو في آسيا وأوروبا على وجه التحديد، حيث ستتعثر هذه وستزدهر تلك دون أدنى شك.. فخطوط النفط والغاز تلك ستعيد بناء أوراسيا وفق الرؤية الروسية، بما يجعل منها مجالاً جيواستراتيجياً منسجماً وفق محصلة مصالح مكوناته الدولية والسياسية، وبصورة ستجعل من وجود النفوذ الأميركي فيه عبئاً على مكوناته بشكل إفرادي أو حتى جماعي.
إقرأ أيضاً .. تفكيك الاحتلال كظاهرة جيوسياسية
من هذه الإطلالة على المشهد يمكن فهم التطورات باتجاه تركيا وأذربيجان، دون إساءة للفهم في ربطها بشكل موضوعي بالملف السوري، فالتصور القائل إن “مصلحة تركيا قد تحققت وهي نفسها كانت مطلباً تركياً قبل الحرب على سوريا” هو تصور مبتور يتناسى أن ذلك كان مطلباً للناتو والغرب لتركيا الخاضعة والتابعة لهما، بينما ما يتم اليوم هو محاولة جدية لانتزاع تركيا من هذا الموقع وإعادتها كمكون تاريخي في الشرق، وهذه بالمناسبة كانت رؤية سورية في العلاقة مع تركيا قبل أحداث فوضى “الربيع العربي” حيث كانت سوريا تدعو تركيا للانتقال من موقع الدولة الأخيرة في الغرب إلى موقع ريادي في الشرق.
هذه المحاولة فشلت لأن وزن سوريا الاقتصادي السياسي ومكانتها في سوق القوة والتصنيع العسكري لا تسمح لها بلعب مثل هذا الدور دون العمق الاستراتيجي لدولة حليفة مثل روسيا والتي لم تكن جاهزة بعد لذلك الدور وقتها، وكان تخليها عن العراق خير دليل على ذلك. ولو أن سوريا قبلت بالمقترحات والمطالب الغربية عبر قطر وتركيا وقتها لما كنا وصلنا إلى اليوم الذي تستطيع فيه الدول الشرقية بقيادة روسيا والصين الوقوف بوجه الغرب بهذه الصلابة التي نراها اليوم، ولكانت سوريا بنفسها نفذت حكم الإعدام بحق المولود الذي كان يتحضر للولادة والنمو وهو العالم المتوازن متعدد الأقطاب، ولكان العالم اليوم يرزح تحد عبودية مطلقة تم تجديدها وتعميقها للغرب، وكانت سوريا نفسها ستندثر في غياهب التقسيم والتبديد كما حدث في ليبيا والسودان والعراق بعد ذلك.
أما عن شرقي أوكرانيا كمحصلة تبدو نهائية لمسألة المعركة التي بدأت بشكل ميداني عملياً في 2014 عقب انقلاب السلطة في كييف واتخذت المبادرة الروسية العسكرية مطلع هذا العام لوضع حد ما لحالة التوتر التي سادت تلك الأقاليم عقب رفضها الانصياع لانقلاب التوجه السياسي للسلطات الجديدة في كييف وقتها، والتي أصرت على الاستدارة الاستراتيجية ضد روسيا بشكل واضح، مع ما رافق ذلك من سياسات الاضطهاد بحق المواطنين الأوكرانيين الذين لم ينسجموا مع تلك الاستدارة، فإن هذه المحصلة تبدو كذلك لعدة أسباب سأمر على ذكرها هنا:
- تمكنت هذه العملية من إعادة الأقاليم في شرقي أوكرانيا إلى روسيا، وهذا بحد ذاته يبدو هدفاً مهماً لجهة أن هذه المناطق التي تدين بالولاء والانتماء إلى الحضن الروسي الجامع تاريخياً لها ولغيرها، ولكنها تضم إمكانات كبيرة من ناحية الموارد الطبيعية والبنية الصناعية التي كانت روسيا أو لنقل الاتحاد السوفييتي هو الذي أنشأها.
- من أهم التطورات التي حملتها المواجهة في أوكرانيا لجهة اتخاذها ذلك الطابع الدولي في المواجهة، كان تقدم العملات الوطنية لعدد من الدول الفاعلة اقتصادياً لتتخذ لها دوراً واعداً أكبر في التعاملات التجارية على المستوى البيني العالمي لهذه الدول مثل روسيا والصين والهند وإيران والسعودية..الخ. لقد أبدت هذه الدول شهية واضحة للإغراء الروسي الذي قُدِّمَ لها مع ارتفاع حدة المواجهة بين روسيا والغرب، وبصورة بدت مفاجئة للكثيرين في مواقف دول محسوبة تاريخياً كتبعية على المعسكر الغربي مثل السعودية التي أظهرت استعداداً جيداً للسير في التصورات الروسية للاقتصاد العالمي.
- أعطت المواجهة في أوكرانيا دفعة قوية لعدد من ملفات الطاقة والأمن على مستوى العالم، وخاصة على مستوى الفضاء الأوراسي وفق التصورات الروسية، فقد شاهدنا الاتفاقيات لتبادل الطاقة ومشاريع خطوط ومحطات التجميع والتجارة بها وهي تتسارع وتكثر بين مختلف دول المجال الأوراسي وحتى خارجه وصولاً إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، ليس فقط للاستعاضة عن السوق الأوروبية وهي ستفعل ذلك بالتأكيد، ولكنها ستعطي دفعات تنموية لهذه الدول والمجتمعات تضعها في مقام أعلى ضمن سياقات صيرورة التوازنات الدولية.
لمجمل هذه العناصر يبدو أن المعركة في أوكرانيا أدت ما عليها بصورة جيدة، وقد لا يهم كثيراً ما سيحدث في تفاصيلها لاحقاً طالما أن الصورة العامة كذلك، فلا أعتقد أن “إسقاط نظام كييف” مثلاً يبدو كخيار مطروح أو لازم، فوجوده أساساً يشكل ضرورة تكتيكية لاستمرار التوتر الدولي الذي تستقي منه الملفات آنفة الذكر وقود استكمالها وتثبيت ما يلزم تثبيته منها كقواعد في النظام الدولي العتيد، مثل تنحية الدولار عن زعامته للاقتصاد العالمي وإنهاء حالة السيطرة المالية والإعلامية والمؤسساتية للمعسكر الغربي على الاقتصاد والاجتماع الدوليين، بكل ما في ذلك من سطوة على المؤسسات الدولية والحالة الذهنية للمجتمع العالمي الذي رزح لعقود طويلة تحت أسطورة التفوق الغربي.
ولكن ذلك بالنسبة لشعوب الدول المتموضعة في قلب المعسكر الشرقي والذي يتمدد ليشمل دول الجنوب أيضاً، لن يعني شيئا طالما أنه لم يثمر بعد عن انفراجات على صعد الأمن والتنمية والنهوض الحضاري، وهذا ما يشكل الملف الأهم الذي يتوجب العمل عليه لترجمة كل هذه التحولات العالمية مع ضرورة التقدير الموضوعي لصعوبته ولأهمية تدرجه بشكل هادئ يتسم بالرسوخ والاستدامة.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب