من الإسماعيلية إلى كابول.. كيف تصنع «الصواريخ المضادة للطائرات» التاريخ؟

الوسط -midline-news….
ضجة كبيرة احتلت عناوين مواقع الأخبار ومنصات التحليل السياسي والعسكري مؤخرًا، منذ تأكد رسميًا حصول تركيا على منظومة الدفاع الجوي الصاروخي الروسية ” إس 400 ” والتي يعتبرها الكثيرون الأقوى في العالم، واعتبرت تركيا الحصول عليها واجبًا حتميًا، تتقاطع فيه المزايا العسكرية التكتيكية والإستراتيجية، وكذلك السياسية والدعائية، بما يستحق من أجله التضحية بغضب العم سام، وبمشروع المقاتلة «إف-35» المشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أعاد إلى أذهان الكثيرين وصولُ تلك المنظومة المتطورة إلى الشرق الأوسط، ذكرياتٍ استثنائية، حظيَت فيها الصواريخ المضادة للطائرات بأدوار البطولة، وأحدثت فارقًا جوهريًا على مسرح أحداث الشرق الأوسط وجواره الملتهب. سنقص في السطور التالية بعض أبرز تلك الذكريات، وما تمخّض عنها من نتائج.
صواريخ «سام».. عندما اصطدمت ذراع إسرائيل الطولى بحائط صلب
«قيادة القوات الجوية الإسرائيلية تصدر تحذيرًا إلى كافة الطيارين الإسرائيليين بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كم». لو ذكرت الجملة السابقة لأي مصريٍّ أو عربي يعاصرَ هزيمة 1967الساحقة، التي دمَر الطيران الإسرائيلي خلالَها نظيرَه المصري على الأرض، وفرض نفسه ذراعًا طويلةً لإسرائيل فتحت أمامها أبواب النصر الساحق، لاتهمك بالجنون. لكن الأكثر جنونًا، أن ذلك كان بيانًا حقيقيًا لقيادة الجو الإسرائيلية بعد ست سنواتٍ فقط من حرب 1967، وبينما لم تكن قد مرت 24 ساعة الأولى منذ اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973.
بداية قصة حائط الصواريخ، والذي لولاه لما نجح المصريون في عبور القناة في ظل تفوقٍ جوي إسرائبلي، كمي ونوعيِّ
في آذار عام 1969 شنَّت مصر حرب الاستنزاف ضد القوات الإسرائيلية في سيناء؛ لتكبيدها خسائر بشرية ومادية ترفع كلفة الاحتلال. في المقابل كان الإسرائيليون يردون الصاعَ صاعيْن، خاصة باستخدام قواتهم الجوية المتفوقة، إذ لم يكن بمقدور القوات الجوية المصرية – التي كان يُعاد تأسيسها بعد سحقها على الأرض عام 1967 – التصدي للطيران الإسرائيلي المتفوق كمَّا ونوعًا. ركزت الضربات الإسرائيلية على المواقع المدنية والعسكرية في الجبهة، والعمق المصري، على حدِّ سواء، واستهدفت خصيصًا مواقع الدفاع الجوي، لتتمكن من الإغارة دون صعوبات.
بحلول أواخر عام 1969، كان الطيران الإسرائيلي قد أكمل تدمير الدفاع الجوي المصري بشكلٍ تام، وأصبحت سماء مصر مفتوحة أمام الغارات الإسرائيلية و اضطر الرئيس الراحل عبد الناصر إلى زيارة الاتحاد السوفييتي أواخر كانون الثاني 1970. يذكر الفريق محمد فوزي وزير الحربية المصري آنذاك، في مذكراته «حرب السنوات الثلاث» تفاصيل تلك الزيارة، وكيف اجتمع عبد الناصر بشكلٍ عاصف مع القيادة السوفيتية، طالبًا منها حماية سماء مصر بشكلٍ عاجل، والإسراع في إعادة بناء الدفاع الجوي المصري، وإلا فإنه سيضطر للاستقالة، وترك حكم مصر لزميلٍ يستطيع التفاهم مع الأمريكان.
أسفرت الزيارة عن نتائج قوية، حيث وافق السوفيت على إرسال كتائب دفاع جوي سوفيتية لحماية العمق المصري بشكل عاجل، يدعمها 70 مقاتلة «ميج-21» اعتراضية بطياريها السوفيت، وأن يساعد الخبراء السوفييت بشكلٍ عاجل في إعادة بناء الدفاع الجوي المصري، للدفاع عن العمق المصري بشكلٍ عام، ومنطقة الجبهة بشكل خاص.
في الشهور التالية، ولتجنب تدمير الدفاع الجوي المصري مجدَّدا، بذلت مصر جهودًا مكثفة لإنشاء العديد من المواقع الخرسانية شديدة التحصين، بطول الجبهة، ليتم نصب صواريخ سام السوفيتية بها. ورغم القصف الجوي الإسرائيلي المكثف، والذي أوقع مئات القتلى بين الجنود، والعمال المصريين، اكتمل بناء «حائط الصواريخ» كما بات يعرف، وتم نقل الصواريخ والرادارات على مراحل، وأثناء الليل. كذلك كان يتم تغيير أماكنها باستمرار لتجنب قصفها، إلى جانب إنشاء الكثير من المواقع الهيكلية الكاذبة لتمتص الضربات الإسرائيلية.
يذكر الفريق الجمسي أن الطائرات الإسرائيلية قد فوجئت يوم 30 حزيران 1970 بالصواريخ المصرية تستهدفها أثناء الغارات؛ مما أدى إلى إسقاط ثلاث طائرات إسرائيلية. أضيف إليها خمس أخرى في الأيام التالية، ليُطلق المصريون على هذا الأسبوع «أسبوع تساقط الفانتوم»، وكانت «الفانتوم» الأمريكية هي المقاتلة الرئيسة في سلاح الجو الإسرائيلي آنذاك. ويتم الاحتفال بذكرى هذا الأسبوع سنويًا كعيدٍ لقوات الدفاع الجوي المصرية.
سهل البقاع 1982.. الإسرائيليون تعلّموا الدرس
لم ينسَ الإسرائيليون – ولا الأمريكيون بالطبع – ما فعلتْه الصواريخ السوفيتية المضادة للطائرات، والتي اعتمدت عليها وحدات الدفاع الجوي المصرية والسورية في حرب 1973، بمئات الطائرات الحربية الإسرائيلية؛ مما وضع التفوق الإسرائيلي العسكري عامةً، والجوي خاصةً، على المحك، وكاد يُنزل بإسرائيل هزيمة ماحقة في تلك الحرب، لولا أخطاء العرب، والدعم الأمريكي العاجل، والسخي، كمًّا ونوعًا، في الجزء الثاني من الحرب.
أعاد الإسرائيليون بناء قواتهم الجوية، وحصلوا على أجيالٍ أحدث من تلك الطائرات التي افترشت أشلاؤها رمالَ سيناء، وهضبة الجولان قبل أعوام. وكان الاختبار الأول لتلك القدرات الجديدة في ساحة لبنان الملتهبة.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد تحولت سريعًا إلى صراعٍ إقليمي مباشر وغير مباشر، وأدى استمرار أعمال المقاومة ضد إسرائيل انطلاقًا من لبنان إلى اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان عام 1978 ولكن زيارة السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، وما تلاها من جولات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، صدمة كبيرة في المشهد العربي عامةً، والمشهد اللبناني بوجهٍ خاصٍ؛ ما دفع سورية لتغيير طريقتها هناك تكتيكيًا واستراتيجيًا.أصبح الإسرائيليون مقتنعين أن الضوء الأخضر الذي مُنِحَ لسوريا من أجل هندسة الوضع في لبنان لم يكن قرارًا صائبًا، وبدا أن جولة أعنف من الصدام في الطريق، وأن حربًا سورية إسرائيلية جديدة تلوح في الأفق.
البقاع.. القوات الجوية الإسرائيلية تستعيد سطوتها
بين أواخر عام 1980 حتى منتصف 1981، اندلعت حرب واسعة بين الجيش السوري، وقوات اليمين المسيحي، للسيطرة على بعض مناطق سهل البقاع اللبناني، وقصفت خلالها المروحيات السورية مدينة زحلة اللبنانية بعنف. اعتبرت إسرائيل تدخل القوات الجوية السورية خرقًا للتفاهمات غير المباشرة حول التوازن في لبنان، ومحاولة سورية لابتلاع لبنان بالكامل.
تدخل الطيران الإسرائيلي بشكلٍ مباشر، وأسقطَ مروحيَّتيْن سوريّتيْن، فتصاعَد الموقف، ودفعت سوريا ببطاريات صواريخ «سام-6» السوفيتية ذاتية الحركة والمضادة للطائرات إلى سهل البقاع، معيدةً إلى الأذهان ذكريات حرب أكتوبر 1973، لمحاولة استعادة سيطرتها على المشهد، كما حدثت بعض المعارك الجوية بين الطائرات الإسرائيلية والسورية، وكانت الغلبة فيها للتفوق النوعي الإسرائيلي. لكن أسهمت بعض الجهود الدولية في تأخير تطور المشهد إلى جربٍ إسرائيلية-سورية مفتوحة في لبنان. لكن ظلت الصواريخ السورية المضادة للطائرات في لبنان، شوكةَ في حلق الهيمنة الجوية الإسرائيلية ولمن في العام التالي 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان في حزيران 82 بمئات الدبابات، وعشرات الآلاف من الجنود، بعد شن مئات الغارات الجوية. كان الهدف هو القضاء التام على الوجود العسكري الفلسطيني، وكذلك تحجيم النفوذ السوري هناك، ورغم المقاومة الفلسطينية واللبنانية الشرسة، نجحت القوات الإسرائيلية في التقدم شمالًا. لضمان نجاح عمليتهم العسكرية وفي بداية اليوم الرابع من الاجتياح البري الإسرائيلي للبنان كان دور البطولة للطائرات الأمريكية الحديثة، وفي مقدمتها «F15»، والتي أحدثت فارقًا بالمقارنة بنظائرها التي اعتمدت عليها إسرائيل في حرب «تشرين 1973».
تمكَّن الطيران الإسرائيلي، وخلال أقل من ساعتيْن فحسب من نهار ذلك اليوم الاستثنائي، من توجيه ضربة عسكرية مركزة ضد الدفاع الجوي السوري في سهل البقاع اللبناني، نجح خلالها في تدمير 29 بطارية صواريخ «سام» مضادة للطائرات من أصل 30، إلى جانب إسقاط أكثر من 80 مقاتلة سورية حاولت التدخل ضد الطيران الإسرائيلي لحماية بطاريات الصواريخ، في مقابل خسارة طائرتيْن حربيَّتيْن إسرائيليّتيْن فحسب. ورغم الفارق المدوي في الخسائر بين الطرفين، اعتبرت تلك المعركة من أضخم المعارك الجوية في القرن العشرين.
صواريخ «ستينغر».. اللدغة الأمريكية السامة التي أنهت الحرب الباردة
اقتحم الجيش الأحمر الحدود السوفيتية الأفغانية في كلنون الأول عام ١٩٧٩، وخلال أسابيع قليلة فرض سيطرته على معظم مناطق أفغانستان، والتي كانت تموج بالقلاقل على مدار سنواتٍ.
في أسوأ كوابيسهم، لم يتصور السوفيت أن الاجتياح السهل لأفغانستان سيكون بداية واحد من أقسى الفصول السياسية والعسكرية في تاريخهم، وأن جبال أفغانستان القاسية، وأوديتها الصلبة، ستكون كمينًا دمويًا مفتوحًا لهم على مدار تسع سنواتٍ تالية، على الرغم من القوة النيرانية الهائلة التي استخدمها السوفيت جوًّا وبرًّا
بحلول عام 1986، وبعد أكثر من خمس سنواتٍ من الحرب المفتوحة بين المجاهدين، والسوفييت، كان الحسم يبدو بعيدًا عن كلا الطرفيْن. لم تنجح القوة النيرانية السوفيتية، وضراوة القصف للقرى والمناطق الجبلية في القضاء على المجاهدين. كذلك لم يستطِع الأخيرون تحقيق أية سيطرة كبيرة على الأرض، تحت السيطرة الجوية السوفييتية الكاملة، خصوصًا المروحيات السوفييتية من طراز «مي»، والتي كانت تشبه الدبابة الطائرة، وكانت تستطيع العمل بكفاءة في المناطق الجبلية.
لكن في ذلك العام حدث ما غيَّر كثيرًا من سير المعركة،و أمَّن الأمريكيون وصول صواريخ “ستينغر ” الأمريكية المضادة للطائرات والمحمولة على الكتف إلى المجاهدين وكانت تلك الصواريخ دخلت الخدمة في الجيش الأمريكي لأول مرة عام 1981 وامتازت بفاعلية كبيرة، مقارنة بوزنها الخفيف والذي يبلغ 17 كجم فحسب، ومثّلت إضافة كبيرة إلى قوات المشاة، إذ تمنحها القدرة على الدفاع ضد الهجمات الجو-أرضية القريبة. وهي تعتمد على التوجيه بالأشعة تحت الحمراء، ويبلغ سرعة المقذوف ضعفيْ سرعة الصوت، ويبلغ مداها الأقصى ستة كيلومترات. الخصائص السابقة تجعلها مثالية ضد المروحيات، لكن تجعلها محدودة الفعالية ضد المقاتلات النفاثة الحديثة.
رغم حاجة صواريخ «ستينغر» إلى أكثر من 130 ساعة من التدريب لإتقان القتال بها، فإن «المجاهدين الأفغان» ما لبثوا أن استوعبوها جيدًا، بنسبة فعالية في الإصابة تصل إلى 70%، وجعلوا منها كابوسًا مؤرقًا للطيارين السوفيت، جعلهم يخشون كثيرًا من الطيران المنخفض، مما قلّل من دقة إصابتهم لأهدافهم. كذلك حدَّت صواريخ ستينغر كثيرًا من فعالية المروحيات السوفيتية ضد «المجاهدين»، مما منحهم الكثير من حرية الحركة، والقدرة على نصب الكمائن للقوات البرية السوفيتية دون خشية من تدخل المروحيات السوفييتية.
بعد عامين سينسحب السوفيت المنهكون من أفغانستان، بعد أن فقدوا أكثر من 40 ألف قتيل، مخلفينَ وراءهم حكومة ضعيفة موالية لهم في كابول، لن تصمد بعد رحيلهم أكثر من ثلاث سنوات، لكن ستكون أكثر حظًا من الاتحاد السوفيتي نفسه، والذي سيتصدع قبلها بعام، وينقسم إلى أكثر من 30 دولة، شاهدة على ما يمكن أن تفعله الصواريخ المضادة للطائرات، المحمولة على كتف مقاتلين منخفضي التسليح، بأعتى الإمبراطوريات.
المصدر : موقع ساسة بوست