رأي

“منظومة أوراق الشاي” .. غسان أديب المعلم

مرّ خبر اجتماع مجلس الأمن المتعلق بسوريا مرور الكرام على المسامع!، بينما كانت أخبار المقابلات الأخيرة والتقاربات “السوريّة التركيّة العربيّة” تتصدّر المشهد بين فئة الطبّالين من أجوري السلطة بأنّ المنّ والسلوى في طريقهما لموائد السوريّين من جهة، وبين رأي الغالبيّة الشعبيّة التي فقدت الثقة بكلّ هذه المشاهد وما يترتّب عليها من نتائج لا تُسمن أو تغني من جوع، بل فقدت الثقة بكامل السلطات، لأنّ أساسيّات وألف باء “دولة المؤسسات” مفقودة، وكلّ مافي الأمر مزارع ومافيات تنطق وتقرّر وتنفّذ بإسم الدولة.

وبما أنّني أميل إلى فئة الغالبيّة بشكلٍ دائم لأنه رأي الشعب، إلّا أنّ ثمّة ذكريات مؤلمة مع تفاصيل الخبر أعادت النزيف للجراح وخصوصاً بتزامن جلسة مجلس الأمن ومواضيعها مع المشروع الأمريكيّ الجديد الخاص بتجارة المخدّرات، أو مايُعرف بتسمية الدولة على أنها “دولة مخدّرات”.

وفي تفاصيل الخبر، أن السفير السوريّ لدى مجلس الأمن نفى أن تكون الدولة السورية استخدمت أي سلاحٍ محظور، وأكد عدم شرعية إنشاء ما يسمى (فريق التحقيق وتحديد الهوية)، كما أكد أن الدولة قامت بتعطيل كافّة المعامل المختصّة بالإنتاج وإعطاب كافّة المُنتجات القديمة.

يحضرني هنا المشهد العراقي الذي أعتبره مطابقاً تماماً لما حصل في سوريا، بل هو الفصل الثاني والأخير ومنتهى الأمل بالنسبة للكيان الإسرائيلي، ألا وهو سوريا الضعيفة المقسّمة كما العراق، كي لا تقوم لسوراقيا قائمة.

أذكر ما حصل في العراق تماماً، الظروف ذاتها والتفاصيل ذاتها بالمُجمل، لحين فرض الحصار الاقتصاديّ المُسمّى باتفاقيّة النفط مقابل الغذاء، وبين أيام سنواته العجاف كانت لجان التحقيق وتحديد المسؤولية تصول وتجول في أنحاء العراق لتدمير ماتبقّى من مخزونه الصاروخيّ، وتفتيت المنظومة الدفاعيّة، بحيث أنّ العراق إبان سقوط بغداد لم يعد يملك من الصواريخ ما يتجاوز مداه مئة وثمانين كيلو متر كحدّ أقصى، وكان ذلك الصاروخ يحمل اسم “الحسين”، وهذا ما سهَّل لاحقاً مع أسباب عديدة أخرى أن يصبح العراق مرتعاً للتدخّلات من كلّ حدبٍ وصوب، فأصبح لكلّ فصيلٍ وعمامةٍ وحزبٍ دولةٌ تحميه وتدعمه، وأصبحت سماء العراق ملعباً للصواريخ والقذائف المُتعدّدة الجنسيّات، وأصبح القرار السياديّ صَغُرَ أم كبر لا بدّ أن يحظى أولاً “باستشارة” من المنطقة الخضراء، أو زيارة طهران، أو تقبيل شوارب المرجعيّة.

وكم أتمنى أن أكون مخطئاً بهواجسي وخوفي، لكنّه التاريخ الذي يقسو على من يتجاهله، ولكنّها أمريكا ومن يدور في فلكها وتغرّه الأماني.

وأذكر أكثر، أذكر بأنّ “المُعارضة المُعلّبة” كانت جاهزةً لملء الفراغ إثر فوضى الانهيار الذي لم يكن البُعد العسكري عامود ارتكازه الأول، بل كانت الركيزة الأساس تلك الحالة التي مرّ بها العراقيّون من علقم الفقر وسمّ الحصار وزعاف الفساد، ليفقد في تلك الفترة مليون طفل حياته بسبب نقص حليب الأطفال، ولتهوي المنظومة الأخلاقيّة في وادٍ سحيق إثر نوبات الغلاء المترافقة مع الاستهتار والاستخفاف بألم الناس، والذي دفعهم رويداً رويداً لتمنّي الاصطفاف مع حلف الشياطين على السلطة التي تتبجّح بالانتصارات والسحق والمحق للعالم مجتمعاً في ذلك الزمان الذي استفحل فيه الظلم والقهر.

فكانت نتائج الحصاد على ذلك الشكل الذي يعرفه الجميع، من قتل الأبرياء في الشوارع والأزقّة بسبب اختلاف الأسماء، وتقوقع الناس وراء العمامات لأجل الخلاص المُفترض، عدا عن سيل الهجرات إلى خارج البلاد مع تصفية أكثر من خمسة آلاف عالم عراقيّ.

كان حينها راتب أكبر موظّفٍ عراقيّ أو ضابط يوازي ثمن أوقية شاي مفقودة، وأصبحت الأصفار تساير الدينار العراقي للحاق بالدولار، وغيرها الكثير لحين فرض دستور بريمر كخشبةٍ من سفينة نوح وطوق نجاة.

وأيضاً تستحضر الذكرى في تلك الأثناء موضوع “المُعارضة المُعلّبة الخارجيّة” التي لبّت النداء حين الطلب، وعادت لتلعب الدور “الوطنيّ” المُقنّع كما رسم لها بريمر،  ووصلت الأمور إلى ما آلت إليه من عراقٍ ضعيفٍ ممزّق.

وهنا، وبالتوازي مع تلك الأحداث وذات السيناريو، نعود مجدّداً لما أشرنا ويُشير إليه الكثير من السوريّين بأنّ المطلب التركيّ “القديم المُتجدّد” أينعت ثماره بتعويم الأشخاص أو الفصائل المُعلّبة على أنها “معارضة” وطنيّة، رغم أنّ جلّ الأسماء كانت في عداد أصحاب النفوذ سابقاً، بل أن بعضها من أركان النظام وأساساته، وكان من أصحاب قطع كعكة ثروات البلاد بطول البلاد وعرضها، وبالتأكيد قدّم نفسه مع ثلّة من حوله كبديل جاهزٍ بقرارٍ دولي كانت السلطات في سوريا من أكثر المُستفيدين من هذه التسمية والوصف – أي مُعارضة – ومن أفضل منهم بالشراكة مرّة ثانية في حال الاتفاق الذي تروّج له الماكينات الإعلاميّة المُختلفة؟، فهم يعرفون جميع المداخل والمخارج لنهب الثروات والإمعان في الإذلال، و كذلك الزعيق على المنابر أسوةً بما هو قائم.

وعليه، لن تقوم لنا قائمة لو سار السيناريو على ذات النحو، أي ازدياد الإقصاء، والتفرّد بالقرار مع غياب القانون والمؤسسات، وبالتالي ازدياد المآسي وخصوصاً أنّنا تربّعنا بالفعل على عرش صدارة الدول الأكثر فقراً في العالم.

حتى لو اختلف السيناريو المرسوم ببقاء السلطات مع شرط الشراكة المُنتظرة مع هذه المُعارضات المصنوعة، فذلك الأمر لن يُضفي أي شيءٍ جديد سوى الإعداد لحربٍ جديدة تحضيراً لفرض الدستور المرسوم على شاكلة الدستور العراقيّ أو حتّى الدستور اللبناني.

وبين هذا وذاك، البلاد تسير على قدمٍ وساق نحو بلوغ الأجور عتبة “أوراق الشاي”، والمنظومة الأخلاقيّة تتدهور يوماً بعد يوم نتيجة سياسة التهميش والإقصاء، وكذلك الحياة السياسيّة الحزبيّة المعدومة الخاليّة من المعارضة الحقيقيّة البعيدة عن التصفيق والتطبيل والإنحناء والمُجاملات.

و في النهاية، وبصوتٍ يائسٍ وبائس، لا بدّ من تكرار التذكير ولو بكلمة أسوةً بمن يرفع نبرة الحرف للدعوة إلى حوارٍ حقيقيّ  سوريّ سوريّ غير المرتهن، وغير المصنوع، أو مؤتمرٍ لخلق بيئة حياة سياسيّة بقانون أحزابٍ وإعلامٍ وعقوباتٍ جديد، مع مشروعٍ وطنيّ جامع يُنقذ ما تبقّى وينهض بالبلاد من جديد، فالمعادلة التي يُشير لها التاريخ دائماً بأنّ قوة البلاد ومنعتها في المواطنة، وبوجود مُعارضة حقيقيّة تُشير للأخطاء وترصد التجاوزات وتمنع انهيار الأوطان..

ومرّة جديدة، كم أتمنى أن أكون مخطئاً، وأنّ البلاد على الصراط المستقيم.

 

إقرأ أيضاً .. كريزة كبتاغون ..

إقرأ أيضاً .. الحاج بريمر وحليمة ..

 

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى