مقاربات ديمقراطية .. تناقضات على وجهي الحقيقة .. يزيد جرجوس ..

مقاربات ديمقراطية .. تناقضات على وجهي الحقيقة ..
هي المفعمة بالمعاني والمُختَزَلة بالسلوك والإجراءات، الجملية في الفهم والتصورات والقبيحة في التجارب والاستخدام.. الملتوية والطيعة في التنظير تبعاً للمنظرين وارتباطهم بالمشاريع السياسية ولولائهم لتلك المشاريع والقوى الفاعلة فيها، أو تبعاً لمعاداتهم لها..
“الديمقراطية” هي كذلك وأكثر بكثير، ولقد كُتِبَت فيها الكتب والمقالات وأجريت حولها الأبحاث والنقاشات، والتي في النادر ما كانت علمية منهجية تبحث عن “المصلحة” العميقة للإنسان وليس للنظم، للمجتمعات وليس للطبقات الاجتماعية، تستحق المزيد من التأمل والسبر المتبصر، حتى نقدم عنها ومن خلالها رؤى لا حلول، وهي المسألة الشائكة المتغيرة والمتطورة تماماً كما هو حال المجتمع البشري لم يقف على أي ناصية متأملاً أو مقرراً الثبات، بل استمر في سعيه الفاعل والمنفعل نحو “الأمام” منذ نشأة الوعي والإدراك قبل ملايين السنين.
يعتبر الكثيرون أن “الديمقراطية” مفهوم “مستجد” ربما ليس له جذور تاريخية، ويربطونه بمراحل حديثة من التاريخ مع عصر “الإديولوجيات” والعلوم السياسية، فيما يعود بها البعض الآخر إلى الحضارة الإغريقية، بينما يعتقد كاتب هذه الأسطر بأنها تشكل عمقاً انتروبولوجياً بعيداً، ربما يعود في تشكلاته لبدايات نشأة الإدراك وتمخضات الصراع على السيطرة والتنظيم في المتحدات البشرية القديمة جداً، وإلا كيف يمكن فهم الصراع الفيزيائي المتمثل بسيطرة الأقوى بدنياً على المجموعة “القبيلة أو العائلة” والذي بدوره يأخذ مسؤولية الحماية والقيادة، ويتمتع أيضاً بميزات الرفاهية والاستئثار بحقوق الجنس والتكاثر ضمن المجموعة، ذلك أن المفهوم المُضمَر في هذه الآليات والذي يتضح بشيء من المواربة هو “سعي الفرد الحاكم لتحقيق مصلحة المجموعة، بل وربما رغباتها أيضا” المتمثلة بالحماية والأمان وتأمين الغذاء والتكاثر للاستمرار وزيادة القوة.
تعريف “الديمقراطية” كمفهوم في هذا الشأن يبقى مفتوحا للتطور والاجتهادات والخبرات الإنسانية المتراكمة.
لكن لا بد من إطلالة على المعنى والأصل اللغوي التاريخي للمصطلح، فكما يعلم الكثيرون الكلمة تعود للمصطلح الإغريقي “حكم الشعب” أو “سلطة الشعب” وهذا مصطلح لا يحتاج للكثير من الشرح، ولكنه يحتاج للكثير من التأمل في تطبيقاته وأساليبه وضماناته ومآلاته الواقعية بعيداً عن التصورات التي تكون غالباً مدفوعة بالتمنيات أو بالحاجات والمصالح الخاصة، وهذه لا تتطابق تماماً مع المصلحة العامة للمجتمع البشري، كما أنها في كثير من الأحيان تتناقض معها، فالولايات المتحدة اليوم ترفع شعار “الديمقراطية” وتؤطره ضمن بوتقة “العالم الحر” وهذا تعبير أميركي بامتياز، ولكنها هي الأكثر اعتداء على الشعوب وتنفيذاً للحروب والاعتداءات والتدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة، إضافة للإجراءات العقابية والحصارات الاقتصادية والسياسية التي طالت ما لا يقل عن 100 دولة خلال القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين.
أما إذا عدنا إلى الجذر التاريخي الذي أنتج المصطلح آنف الذكر، سنجد أن نمط “حكم الشعب” في الحضارة الإغريقية نفسها كان نخبوياً طبقياً، حيث استأثرت طبقة الأسياد بالحكم بعيداً عن “العبيد” والنساء أيضاً، فيما يجعل من “حكم الشعب” شعاراً ديكتاتورياً إلى حد بعيد في تناقض صارخ مع محتواه اللغوي. اللافت للنظر أن المرأة في سويسرا مثلاً لم تنضم إلى مفهوم “حكم الشعب” إلا في مطلع سبعينات القرن العشرين 1971 بعد عقود من حصولها على ذلك الحق في كثير من الدول “غير الديمقراطية” حسب المقاييس العالمية في دول الجنوب والشرق.
ظل التنافر الأساس في تجاذب المعنى الأبرز لمصطلح “الديمقراطية”، وإن كان بصورة غير معلنة، هو حول التساؤل المنطقي التالي: حكم الشعب أم مصلحة الشعب؟!.
وهذا تساؤل مشروع وكثيرا ما استخدم بشكلين أحدهما تعسفي يهدف للاستئثار بالسلطة والآخر تنويري يحاول السعي فعلياً لتحقيق المصالح العامة على ندرته. ولكنه شكّل السّمة الدامغة للصراع السياسي عبر التاريخ في الممالك والدول والحضارات، حيث ادَّعت الطبقة الحاكمة حرصها على مصلحة الأمة/الشعب، وبصورة مستمرة عبر التاريخ، وتحصلت على شرعيتها من خلال ذلك. وهذا لا يعني أبداً تأطيراً لكل السلطات السياسية في العالم عبر التاريخ ضمن إطار “الادعاء الكاذب” لأن ذلك يخالف طبيعة الأشياء غير القابلة للتعميم والتعمية، كما أنه يفرغ التاريخ من محتواه النضالي، وفي هذا ظلم للحقيقة ولتضحيات الكثيرين.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي (ألان تورين) في كتابه “ما هي الديمقراطية؟”: “إن الذات الفاعلة التي تعتبر الديمقراطية شرط وجودها السياسي، مهددة في المجتمعات التابعة (الدول النامية و”المتخلفة”) بالانسحاق تحت وطأة التراث والتقاليد، كما أنها مهددة في المجتمعات المحدَّثة (الغرب وفضاؤه السياسي) بالانحلال ضمن حرية مختزلة إلى حرية المستهلك في السوق”.
إن هذا يقودنا إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أنه برغم كون “الديمقراطية” شعاراً رفعته كل النظم السياسية عبر التاريخ، ولكنها بدورها (النظم) متأثرة بتراثها القيمي وبطبيعة الإنسان أيضاً، سعت إلى استخدامه استخداماً، وتالياً قامت بتفريغه من محتواه الفعلي.
ما لبثت “الديمقراطية” أيضا تتنازعها التفسيرات على ضفتي محور آخر متشعب ويصعب البت فيه، وهو إمكانية تجسيدها لحكم “الأكثرية” أو ضمانها لحقوق “الأقلية”!! في عملية سجال يسهل “الإفتاء” فيها، ولكنه يصعب مهنياً وعلمياً الوصول فيها إلى حلول مثالية، تلك التي تنزع النفس البشرية والأحزاب والإيديولوجيات المنبثقة عنها للوصول إليها.. إن بر الأمان في هذا السياق يبدو بعيداً عن متناول الاجتهاد الفكري والسياسي حول العالم والتاريخ. فالأمثلة المعاشة تاريخياً وخاصة في العصر الحديث متخمة بالتناقضات انطلاقاً من المحورين السابقين، فلطالما أنتجت الثورات التحررية ضد الاستعمار والتبعية ديكتاتوريات قاسية، لا بل وأكلت بنفسها أبناءها، في حين نجد أن “الدول الديمقراطية” التي سيطرت على العالم خلال القرنين الماضيين، تمارس إفراطاً في أحادية الرأي والقرار والتحكم في هذا العالم، وحتى لا نغرق في الحديث السياسي حمّال الأوجه ووجهات النظر، سأتحدث عن صيغة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي يُحتكَر القرار فيه لخمس دول محددة، وليس هذا فحسب ولكنها الدول الأقوى عسكرياً..! إن هذا في ذاته يشكل هزيمة كبرى لكل مفاهيم الديمقراطية التي تدعيها الدول المشاركة في هذه المنظمة، وتحديداً الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن المؤسسة الأكثر استئثاراً بالسلطة.
طبعا الدول “الديمقراطية” لا تنتهك المعنى الديمقراطي فقط عبر حضورها الأقوى في مجلس الأمن، ولكن في سياساتها المرتكزة على التدخل العسكري والسياسي والاقتصادي تجاه دول الشرق والجنوب، وبشكل مستمر لم يتوقف في يوم من الأيام، لا بل إن فرض هذه الدول “العقوبات” على بعضها يأتي كاستكمال لهذا الانتهاك، فلطالما فرضت الولايات المتحدة إجراءات قسرية ضد دول أوروبية غربية عند مساس هذه الأخيرة بالمصالح الأميريكة في قضايا النفط والتعدين والتجارة “الحرة”، في عام 2018 فرضت الإدارة الأميركية ضرائب كبيرة على واردات الصلب من الاتحاد الأوروبي، وهو الشريك السياسي الأول لها، كإجراء عقابي يهدف للتضييق على التجارة الأوروبية ويناقض بشكل فاضح كل مفاهيم “حرية التجارة” و “مصلحة شعوب العالم الحر”.
كثيراً ما تلجأ الدول والحضارات إن صح التعبير إلى الممارسات الديمقراطية لتثبت “ديمقراطيتها” فيما دُرِجَ على تسميته “ديمقراطية الصناديق” في إشارة إلى شكلية هذه الديمقراطية وعدم ملامستها لعمق الواجبات المنوطة بها والمأمولة منها، أو لنقل بدقة تلك التي تدعيها، فإذا كانت الانتخابات دليل على حكم الشعب فإنه نادراً ما تخلو بلد من الانتخابات، وفي حين يتم التلاعب بهذه الانتخابات بصورة فاضحة من خلال آلية التصويت والتلاعب بالصناديق في الدول الأقل تطوراً، فإنه يتم تفريغها من حقيقتها عبر آليات أكثر خبثاً كآليات الترشح وتشكيل الأحزاب والعبث بالرأي العام والقيام بتشكيله في الدول الأكثر تطوراً، حيث يشكل المال الانتخابي ولعبة الإعلام أساساً فكرياً للتعاطي مع المسألة.
إن الاستبداد الأعمق ليس أن يسلب القرار من الجمهور، ولكن أن يتم إيهامه بأنه صاحب القرار.
عشية الاستعدادات الغربية لاحتلال العراق 2003 أشارت استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من 80% من الشعب الإسباني تعارض هذه الحرب، ولكن حكومة خوسيه ماريا أزنار ذهبت إليها بقيادة الولايات المتحدة غير آبهة برأي شعبها، كما أن أغلبية البريطانيين فعلت نفس الأمر، بينما تشير استطلاعات الرأي في روسيا هذه الأيام إلى تأييد أكثر من 80% لسياسة بلدهم تجاه الغرب وأوكرانيا، ولكن الإعلام الغربي يصف روسيا “بالديكتاتورية” ويفخر “بديمقراطية الغرب”، إن هذا يثبت على الأقل مدى سجالية المسألة، وعدم القدرة على تعريفها بشكل عملي بعيداً عن لغة المصالح السياسية، وخاصة مفهوم الأمن القومي فرئيس وزراء بريطانيا سنة2011 وإبان اندلاع المظاهرات في شوارع المدن البريطانية قال “نحن بحاجة صحوة أمنية ولاستعادة شوارعنا من البلطجية”!!.. إن هذا ببساطة هو نفسه ما تقوم به حكومات دول “العالم الثالث” عند تحسسها للخطر الوجودي.
تبدو “الديمقراطية” مسألة شائكة ومعقدة على الاختزال أو الاستئثار، فالإنسان نفسه الذي يسعى إليها هو من يباشر قمعها من الزوايا التي يمتلك فيها المقدرة مقترنة بالإحساس بالخطر، كما أنها مفهوم متطور وغير نهائي مرتبط في شكله بدور وسائل الانتاج وتطورها، فهي بالحقيقة تميل أكثر لتكون عرضا ونتيجة للتنمية يعبر عنهما بممارسات وصفات لدى هذا المجتمع أو ذاك، وتبدو أكثر إشراقاً عند شعوب اجتازت نفق التنمية منها عند الشعوب النامية، حيث قامت الأولى بإرساء بعض الأعراف والتقاليد والممارسات لما يبدو أنه مصلحة الجماعة، ولكنه كثيراً ما تعريه الظروف ليبدو عكس ذلك، بينما فشلت الثانية بإنتاج تلك التقاليد بشكل أكثر جاذبية على أقل تقدير.
يمكنني القول وأنا مرتاح الضمير بأن “الديمقراطية” تقع تحت سيطرة رأس المال والحكومات العميقة التي تدمج بينها وبين السياسة والحكم، بحرفية وذكاء أحياناً، وبسذاجة وغباء أحياناً أخرى.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب