مظفّر النوّاب الشاميّ الذي أحبّنا وجمعنا حيًّا وميتًا .. محمد سعيد حمادة ..

لم يُجمع السوريّون، منذ زمن ليس باليسير، على أمر كما فعلوا بالأمس وهم يرْثون الشاعر العراقيّ الكبير مظفّر النوّاب، كما رثوا آباءهم وإخوانهم وأبناءهم ورفقاءهم في الحرب، وكأنّ مظفّر النوّاب سقط في معركة قريبة حُرّرت بها تدمر أو استعيدت حلب؛ وكأنّ مظفّر النوّاب جزراويّ وساحليّ ودمشقيّ وحلبيّ وحورانيّ، وكأنّه درزيّ وسنيّ وإسماعيليّ وعلويّ ومسيحيّ ومرشديّ وشيعيّ وكرديّ وعربيّ وشركسيّ وتركمانيّ وأرمنيّ وآشوريّ سريانٌ سوريٌّ صميم صميم، وهو كذلك.
رحل مظفّر النوّاب أمس من كلّ بيت سوريّ، ونُصبت له خيمة عزاء في كلّ ناحية وقرية وقلب، وإن اعتلت حسرةٌ مفرداتهم في أنّه لم يمت بينهم ولم يتسنّ لهم تشييعه إلى السيّدة زينب كما فعلوا مع محمد مهدي الجواهري. لكنّها الحرب، وقد ألهتهم عن الاهتمام به ورعايته، لكنّها ليست حُجّة كذلك في إهمال من جعل الطِّيْبَ الشاميّ شامة للشعر وفيه؛ وكأنّ كلّ هذه الكلمات التي كُتبت عن مظفّر تكفير عن إهمال رعايته في سنواته الأخيرة.
اختلف السوريّون ويختلفون على نزار قبّاني ومحمود درويش وأدونيس الحيّ الذي يضع محبّوه وأبناؤه أيديهم على قلوبهم في أن يذهب أب الشعر والفكر السوريّ غريبًا، لكنّهم اتّفقوا على مظفّر، رغم الضائقة والمضائق والأزمات، وكأن لم ينقصهم شيء وقد غاب حبيب كان يشاركهم رغد العيش ويذكّرهم بالعهد بينه وبينهم: “وكان العهد إن دجتِ الليالي/ نهبُّ إلى بنادقنا احتكاما”.
صحيحٌ أنّ كثيرًا من محبّيه لا يعرف من شعر النوّاب إلاّ بعض المقاطع السياسيّة عالية نبرة الشتيمة، لكنّهم يعرفون حبّه للشام ودمشق التي كان يعود إليها متعبًا معاتبًا في كلّ مرّة، وكانت واسطة العقد بين بغداد والقدس؛ فقد كانت المدن الثلاث أكثر ما تلألأ في شعره وإن مرّ على غيرها، لكنّها ثالوثه الدائم الذي لا يغيب ذكره بين كلّ قصيدة وأخرى. حتّى إنّ صوفيّات النوّاب مليئة بتشويم كلّ ما هو جميل وفاتن وساحر ومثير.
بهجةٌ، رغم الحزن العميق، في أن نتّفق على البهاء والجمال والعمق والانحياز للحقّ ممثّلاً بشاعر كبير جعل القدس سُورة في الشعر لم يستطع كلّ من كتب عنها أن يفعل ما فعله، لدرجة أنّ كلّ من عرف مظفّر النوّاب أو كتب عنه كان يقرن اسمه بالقدس مردّدًا “القدس عروس عروبتكم”.
مات مظفّر النوّاب وفيًّا لسوريا والسوريّين الذين جمعهم خبر وفاته رغم اختلافاتهم التي لا تُعدّ.
رحل مظفّر النوّاب مثالاً للإنسان المؤمن بقضيّة لم يتنازل عنها رغم كثير من المغريات، وشاعرًا مختلفًا مجدّدًا أغنى العربيّة الفصحى وجعل من المحكيّة العراقيّة رسائل عشق وبكائيّة حزن للعرب جميعًا.
*روائي وشاعر .. سوريا