مرسوم العفو .. دلالات وتحديات .. د.كمال جفا ..

مرسوم العفو .. دلالات وتحديات ..
أحداث متسارعة يشهدها العالم أجمع توحي بتحولات جذرية عميقة تضرب منظومة توازنات استراتيجية رسختها نتائج الصراعات المستمرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي كانت منطقتنا الحامل الأكبر لشظاياها ولتأثيراتها المباشرة على كل شعوب منطقتنا وخاصة للأنظمة الجمهورية الأكثر التصاقا بالقضايا العربية وبالذات لحاملي بوصلة وهم القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني ونجت من هذه الزلازل المتلاحقة كل الأنظمة العربية التي يحكمها ملوك وأمراء لم يُسمح للربيع العربي بالاقتراب من عروشهم لتماشيهم ولو بالحد الأدنى مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في العالم ممن يقودون السياسات العالمية وتوجهات الغرف السوداء.
سورية ضربها أعصار الربيع العربي بقوة، وكانت تأثيراته فوق تصور وتحمل الجميع، وكان الثمن فادحاً ومُكلفاً، لكن في النهاية أوقفته وكانت محطته الأخيرة، وأفشلت مسار وخطط استكماله بالعبور إلى مزيد من الدول والأنظمة العربية.
حدثت العشرية السوداء وما رافقها من ويلات دفع ثمنها جميع السوريين، ومن جملة الإجراءات التي قامت بها الدولة السورية عبر مسار شاق ومعقد هو الملاحقات الامنية والاعتقالات والمحاكمات المختصة بقضايا الإرهاب والمحاكم الميدانية.
الجزء الأكبر من الموقوفين هم من المتهمين تحت بند ما يسمى الإرهاب، إن كان مشاركةً أو دعماً أو تمويلاً أو تحالفاً أو مساندةً لكل التحركات الميدانية والإعلامية التحريضية والتخريبية ضد الدولة السورية.
أعداد اللذين اعتقلوا خلال هذه العشرية بلغت عشرات الآلاف، تم توقيفهم فمنهم من صدرت بحقه أحكام، ومنهم من لم يتم الحكم عليه بعد، وتراوحت الأحكام ما بين الخمسة سنوات وحتى المؤبد وبالتالي قد تستمر توقيفات البعض منهم عشرات السنين بسبب صغر أعمارهم حالياً، وبالتالي سيبقى هذا الجرح نازفاً وهذا الملف مفتوحاً وعرضة للتجاذبات السياسية والمتاجرة من قبل دول الحرب والإجرام ضد سوريا، ومن قبل من يعمل تحت قيادتهم، فيما لو لم يتم فتح هذا الملف ومعالجته، بل وإنهائه عبر مراسيم عفو متتابعه كان آخرها وأشملها المرسوم الأخير الذي صدر قبل أيام وننصح بهذا التحليل المقتضب.
هذه التراكمات الامنية كان لا بد من قرارٍ كبيرٍ يُنهي تداعياتها، لأنه يُعتبرُ ملفاً مأساوياً لكل السوريين، فجاء المرسوم في التوقيت الدقيق والصحيح ومن حيث المضمون و المحتوى.
ومما لا شك فيه أن موضوع استثمار جهاتٍ ما لأشخاصٍ وحالاتٍ من المُفرَج عنهم لتشكيل منصة إساءة وتجييش ضد الدولة والجيش لن يتوقف، وموضوع التشكيك أيضا بكل الإجراءات التي تقوم بها الدولة السورية مستمر، وموضوع فبركة الرسائل المتسارعة للداخل والخارج لتقويض أي خطوةٍ إيجابية تُقدم عليها الدولة السورية، إلا أن كل ذلك لن يؤثر بالشكل الذي ترغبه تلك الجهات المشبوهة على الرأي العام الداخلي المؤيد أو المعارض الذي يهمه عودة الغائبين إلى أحضان أهاليهم، والعبور الى طريق الصواب أياً كانت مرجعياتهم السياسية.
كما أن عوامل الاستقرار الداخلي ودخول الملف السوري مرحلة التجميد الإقليمي بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا وانتقال القوى الكبرى إلى ساحة صراع دولي شبه مباشر أكبر من ساحة الصراع في سورية، أدت إلى انشغال الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا عن هذه الساحة، وبالتالي تراجع ترتيب الملف السوري في سلم أولويات هذه الدول وهي أكبر وأهم الدول المورطة في الملف السوري، لذلك فهي لا تريد أن تتنازل عن مكاسبها في هذا الملف، بل تتشبث به وتسعى لتقوية جبهة الحلفاء وتجميد الوضع القائم لحين انقشاع الرؤية في حرب أوكرانيا، والذي سيكون له منعكسات كبيرة على الملف السوري.
واستناداً لما سبق أحسنت القيادة السورية اختيار التوقيت، بهدف التفرغ للملف الداخلي وتحقيق ما يمكن ويجب تحقيقه من المطالب على مستوى الداخل والتي تدفع بعض الدول العربية للقيام به لإحداث خرق في الملف السوري ممكن أن يؤدي إلى تحريك الوضع السياسي داخليا وتخفيف التوتر والاحتقان وسحب ملف المعتقلين من التداول وتحطيم الجدران العالية بين السلطة والشارع الداخلي أن كان معارضاً أو رمادياً أو حتى مؤيداً، وربما يؤسس لمرحلة مصالحة واسعة نحن بأمس الحاجة إليها.
بدورها أثبتت مؤسسات الدولة أنها ثابتة وقوية وعلى رأسها المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية، كما أن الجبهات القتالية محصنة، وعادت المؤسسات الحكومية لتمارس مهامها في كل المناطق المحررة وباقي المناطق الآمنة، ومن الطبيعي أن مؤسسات الداخلية والقضاء والمحاكم والقطاعات الخدمية ستقوم بدورها كاملاً، وهي قادرة على التعامل مع هذه الأعداد الكبيرة التي شملها العفو الرئاسي، وسيتم العمل على استيعابهم وإعادة دمجهم في الحياة اليومية في مجالات دراستهم وعملهم واختصاصهم.
في هذا العفو فتحت الدولة السورية أبواب مستقبل أفضل، وطوت صفحة دموية من سنوات القهر والتدمير والتشريد، بالرغم من الدور الذي مارسه بعض هؤلاء الموقوفين خلال السنوات السابقة، إلا أن عجلة الحياة ستستمر، وسيكون هناك خارطة طريق توضح معالم المرحلة القادمة، وتصوغ من خلالها عقداً اجتماعياً جديداً كتبت أحرفه بتضحيات ودماء السوريين.
*متخصص بالشؤون السياسية والعسكرية – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب