محطات مع درويش .. أزمة هوية .. يزيد جرجوس ..

محطات مع درويش .. أزمة هوية ..
في حوار مع مجلة الطريق عام 1968 ورداً على سؤال الناقد اللبناني محمد دكروب، حول “أهم المعارك الفكرية التي خاضها الشعراء في الأرض المحتلة” يقول محمود درويش:
“لعل مكافحة سعي سلطة الاحتلال إلى إشاعة العدمية القومية في صفوف الجيل العربي الجديد، قد أصبحت إحدى معاركنا اليومية … وتوحي السلطة (سلطة الاحتلال) لمأجوريها، بين الحين والآخر، لاختلاق مناقشة واسعة حول ((هل العرب يؤلفون شعباً؟))، وتملأ صحفها بالمصادر ”والبراهين والأدلة القاطعة!” على أن هذه الشعوب المسماة عربية، ليست عربية!”.
اليوم، وبعد مرور خمسين سنة على صرخة درويش تلك، ما زلنا نعيش أزمة نجد فيها بيننا من يسيرون بطريقة أو بأخرى بنفس اتجاه الهدف الصهيوني آنف الذكر، في التدمير الممنهج لفكرة الجمع الحضاري إن لم يكن القومي لشعوب المنطقة، عبر ابتكار هويات جزئية، أو استحضارها من التاريخ، وبصورة خارجة عن سياقها، وطرحها في مواجهة الهوية الجامعة اليوم، أو كبديل عدائي لها.
أنا لا أميل ولا أروج لمحاكمة أصحاب الرأي الذي يبدو خاطئا، أو لنقل يصب في مصلحة العدو، وميلي هذا ناتج عن منطلقين .. أولهما إيماني بالحرية والبحث والاجتهاد، وسعيي لتعميمها كقيم للنهوض. وثانيهما أن موقفنا الفكري الحضاري ليس ضعيفاً، حتى يصاب بالذعر عند طرح فكرة معارضة له، بل هو على العكس، قوي ورحب، يحاول فهم الفكرة ووضعها في نصابها المناسب، وطرح الحلول والإضاءات اللازمة لاستيعابها، أو تفنيدها إذا كان لابد من ذلك.
هنا تلزمنا العودة إلى بضعة محطات لا يمكن إغفالها كمنارات، لتنير بحثنا المقتضب. تبدأ بمؤتمر بنرمان الذي عقد في لندن وعلى مدى عامين كاملين، من 1905 وحتى 1907 بدعوة من حزب المحافظين البريطاني للبحث في آلية تحافظ على تفوق الدول الاستعمارية، إلى أطول مدى ممكن، حضرت فيه إضافة إلى بريطانيا كل من فرنسا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا، وخرج المؤتمر بتوصية إنشاء كيان في فلسطين يكون بمثابة فاصل بشري يفصل العالم العربي إلى قسمين آسيوي وأفريقي، للحيلولة دون وحدة هذه الشعوب مجدداً.
لم يكن ذلك ببعيد فكرياً عن مقولة أرنولد تويمبي كبير المؤرخين البريطانين “عندما يستيقظ العرب، تغرب شمس الغرب” ولا سياسياً وزمنياً عن وعد بلفور الذي جاء عقب عشر سنوات من المؤتمر، ليشكل إعلان تطبيق توصياته على الأرض، وربما أحد أهم الأدلة على حدوثه.
فهل من مواقف وأطروحات تشكل أسناداً لهذا التوجه ومبرراً لهذه القراءة؟!..
- في عام 2020 تباهى نتنياهو في تغريدة على تويتر قال فيها:
“غايتنا الكبرى هي التغلب على التهديد الإيراني كما تغلبنا على على التهديد الكبير الذي تمثَّل في القومية العربية”.
وكان الكاتب السوري الكبير حسن م يوسف علق بحزن على هواء (شام إف إم) مستذكراً مقولةً هامة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ تقول:
“إذا وجدت عدوك مسروراً بما تفعل، فاعلم أنك تسير في الطريق الخطأ”.
- في عام 1995 قال (شمعون بيريز) ما يلي:
“لن نستطيع الدخول إلى جسد المنطقة إلا إذا نجحنا في تدمير الثقافة التي تقوم على أن العرب أمة واحدة”.
- الجنرال (موشي فرجي) وفي كتابه “إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان” الصادر سنة 2003 في تل أبيب، يقول “إن استراتيجية إسرائيل تجاه المنطقة العربية انطلقت من رفض فكرة انتماء المنطقة العربية لوحدة ثقافية وحضارية واحدة”.
فإن لم تكن أحداث “الربيع العربي” بكل الشبق الذي اعترى وجهها لتدمير القيم الجامعة في العالم العربي تجسيداً لهذه الرؤى عند قادة ومؤسسي الكيان العبري، فماذا تكون!؟..
لقد شكل استيقاظ النعرات التفتيتية من على منصات عرقية أو ثقافية أو حتى طائفية دينية (هذه غالباً تستتر خلف عناوين أخرى إيديولوجية لأنها تخجل من التعبير الصلف عن نفسها)، شكلت واحدةً من أبرز ظواهر الأحداث الدامية لانتفاضات “الربيع العربي”، الأمر الذي وضعه بمكان يسهل فيه وصفه بأنه هو التجسيد الواقعي لمشروع “الفوضى الخلاقة” الذي أعلنت “آلام مخاضه” (كونداليزا رايس) من بيروت 2006، حيث برز بشكل واضحٍ خلال كل تلك السنوات الميل الغربي لدعم كل الانتفاضات التي حدثت في دول محددة من العالم العربي إضافة إلى دول محددة من شرق أوروبا، بشكل يضعها فيما يشبه المشروع الجيوسياسي الهادف إلى تقسيم روسيا والعالم العربي، وربما إيران والصين أيضا، حيث لا تخلُ مشاريع الدول الغربية وسلوكها من التحريض والاستفزاز أيضا تجاه الدولتين، وتمثل قضيتا “الملف النووي” الإيراني و”تايوان الصينية” دليلين واضحين.
إن مراقبة الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق ما بعد الاحتلال الأميركي 2003، والذي اعتبره المسؤولون الأميركيون (رايس ورامسفيلد وغيرهم) “هو النموذج الذي يجب تعميمه على بقية الدول في الشرق الأوسط”، يعطينا أيضا العبرة والمؤشر الواضح لمآلات الأمور في هذه السياقات المتجهة نحو تدمير المنطقة سياسياً واجتماعياً وتتبيعها اقتصادياً بكل الوسائل.
اليوم، هناك الكثير جداً من السياسيين والمفكرين العرب، يجددون صرخة درويش، لا بل وبوعي أكبر وفهم أعمق لضرورات هذه الصرخة، بعد أن عاشوا يقينا تحقق رؤية الشاعر الفيلسوف على الأرض، خاصة مع التطور الكبير الذي طرأ في مجالات العلوم الإنسانية على مستوى العالم، حيث لم تعد القوميات تعرف بصورة عرقية جامدة لا تتقبل الاعتراف بحقائق عدم وجود فروقات بين البشر عموماً من الناحية الإنسانية، وتفرض خطوطاً واضحة بين الشعوب المتجاورة أو المتعاقبة، إن لم نقل جدراناً آيديولوجية فاصلة، فالاختلافات بين الشعوب صارت تعرف بمفهومها الحضاري، والعلاقات بينها يُنظر إليها كعلاقة تماوجية متداخلة لا قُطوع واضحة فيها، من هنا صارت العروبة مثلاً تُقدَّم بصورتها الصحيحة كوعاءٍ حضاري، ومنتج إنساني لكافة شعوب المنطقة العربية وحضاراتها المتعاقبة، تشكلت منها جميعاً، وعبرت عنها كلها بصورة الحضن الجامع.
من الجدير ذكره هنا قبل إقفال الموضوع، ولو مؤقتاً، أن علوم التاريخ اليوم باتت تستبدل مصطلحات “الساميَّة” في تعريفها للغات وللشعوب التي سكنت وأنتجت الحضارة في إقليمنا، بتعبير “اللغات والشعوب العروبية”، وذلك نتيجة للبحث والتحليل العلمي، الذي يرى الفكرة العربية كجامع علمي موضوعي، يميز كل تلك الثقافات وأصحابها، وليس “السامية” التي يعتبر العلماء والدارسون أنها ناتجة عن أسطورة، في حين العربية أو العروبية هي معادل واقعي علمي في البحث والتبويب، فاليوم تعرف الآرامية والفينيقية وعربية الجزيرة ولهجات شمال أفريقيا بالمصطلح العلمي كلغات ولهجات عربية، فيقال “العربية الآرامية” مثلاً.
هذه الإحاطة العلمية لا يقصد بها تبرير السلوكيات السياسية اليوم، وهي بعيدة عنها تماماً، ولكنها تبتغي توضيح الصورة الجامعة لهذه الشعوب، وصورة التلاقي والاندماج التفاعلي مع المكونات الثقافية والحضارية التي سبقتها زمنياً، في حين كانت تكونها حضارياً، وذلك بتعبير دقيق، فالعربية هي المنتج النهائي الجامع لكل تلك المكونات، وليس النقيض لها، وليس وجود الكم الكبير من المصطلحات والكلمات وأدوات التعريف وبقية التفاصيل، مشتركةً بينها إلا التعبير المباشر الواضح عن هذه الحقيقة العلمية التاريخية، ويصح أن نقول الاجتماعية بالمناسبة.
لا أعتقد أن كثيرين منا، وبرغم دوافع الألم والحسرة والمرارة التي يحسون بها، جراء الحرب القاسية التي تعرضت لها دولنا، ولعبت فيها بعض السلطات العربية دوراً مباشراً أو غير مباشر، سيستمرون على المدى المتوسط والبعيد، -خاصة مع الإضاءة على هذه المفاهيم- في حربهم على انتمائنا الحضاري، كون ذلك ..
أولاً: يحمل في طياته تجاهلا لحقيقة دور حكومات عربية في الحرب كأدوات فقط، في يد المحرك الأساس الصهيونية العالمية.
ثانياً: أن سلوكهم هذا يسير تماماً في تنفيذ مخطط العدو، وعليه أعيد هنا مقولة (ماو تسي تونغ) بصياغة أخرى:
“إذا كانت الكثير من أفكارك تتقاطع مع أفكار العدو، فهذا يعني أنه قد آن الأوان للوقوف أمام المرآة وإجراء مراجعة شاملة”.
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب