العناوين الرئيسيةحرف و لون

ماما عندكم؟! .. د.محمد عامر المارديني

|| Midline-news || – الوسط …

.

بعد أن قضت زوجته نحبها نتيجة معاناتها مع المرض، ورحل ابنه إلي بلاد العام سام يلتقط رزقه، آثر”أبو ليفة” أن يعتزل هذه الدنيا، مصاحباً أربعاً فقط: سيجارته، وفنجان قهوته، وجريدته، ثم الحاكي الذي يحكي له كل يوم أغنيات أم كلثوم الرائعة.
طبعاً، لم يكن اسم ابنه “ليفة”، بل كان ذلك لقباً أطلقته عليه أمه مذ كان طفلاً صغيراً. والقصة بكل بساطة هي أن أم زهير، أي أم أبي ليفة، غالباً ما كانت تصرخ عليه من الحمام، صباح كل يوم جمعة، مستعجلة إياه ليغتسل “لك وينك يا بطيخ، والله بدك ليفة من ورء قزاز لتروحلك هالوسخ، ليفة بطولك يا أبو ليفة، ريحة إنتانك موصلة لهون”. يدخل عليها زهير شبه عارِ، فيجلس بين يديها على كرسي خشبي صغير بقرب “القاظان” الفائر ماءً، ثم تقوم أمه على الفور بغسل رأسه المتكدس قشرةً بصابون الغار عدة مرات، إلى أن يفقس زيت رأسه كما كان يحلو لها أن تقول، ثم لا يلبث زهير بعد لحظات من دعك الرأس أن ينام بين يديها وكأن “مورفيناَ” قد سرى في عروقه، ثم تدلك ظهره “بليفة” طويلة مصنوعة ربما من أحشاء اليقطين، فتكشط معها آثار وسخ الأسبوع المتراكم من مدرسته، ومن اللعب طوال النهار في الحارة أيضاً، ثم تعود أخيراً لتشطف جسمه بعد ذلك بالماء الحار، فتراه يصحو شيئاً فشيئاً من غيبوبته، فتقذفه خارج الحمام والبخار يتصاعد من جسمه كالفروج المشوي وهو ملتف بالمنشفة وكأنه مكفّن تكفيناً، قائلة له: “روح خلّي أبوك يلبسك البيجاما، وعلى التّخت فوراً”.

لعنك الله أيتها الغربة ولعن كل من يحبك. هكذا كانت كلمات “أبو ليفه” المشهورة كلما سأله شخص ما عن أحوال ابنه عماد، فبعد أن هجره وحيده، وتوفيت زوجته المشاكسة، أصبح كل شيء في نظره غربة. حارته صارت موحشة، لا يعرف أحداً من ناسها، ولا يعرف حتى أي بيت من بيوتاتها. أما الأستاذ عدنان، الذي ما زال يقطن بجواره منذ ثلاثين عاماً، في البيت الملاصق تماماً، أو كما يقال الباب على الباب، بات -مع الأسف- غريباً عنه، أصبح سمجاً، غليظ المعشر، مقيتاً، رغم أنه كان من أحب الناس إليه بعد عماد، وربما قبل زوجته. أما التلفزيون فلم يعد يعرض -برأي زهير- إلا موضوعات مقرفة، ومسلسلات بغيضة، بالرغم من وجود مئات المحطات المبرمجة على شاشته. والحقيقة فإن أبا ليفة كان يشتاق فقط إلى مشاهدة مسرحيته المفضلة “غربة”، تراه يبحث عنها بين فترة وأخرى ضمن أكوام المحطات التلفزيونية، أملاً في أن يستعيد عرضها يوماً ما. جريدته التي كان يتصفحها بشغف صباح كل يوم أصبحت مملة جداً، ولم يعد يرى فيها شيئاً جميلاً .. لا شيء سوى نعوات أصدقائه، وكان كما لو أنه يحسدهم على نعمة مفارقة الحياة، وربما منتظراً ذلك اليوم الذي يقرأ فيه نعوته. وأما سريره الحديدي، من بقايا العهد المملوكي، فقد صار يخشى النوم عليه، لأنه أصبح يعتقد أن عملية النوم بحد ذاتها، ولو لنصف ساعة هي غربة بعينها. نعم، كل شيء في دنيا “أبو ليفة” لم يعد له معنى إلا شيئاً واحداً، هو ذكرى حضن أمه الدافئ في الحمّام، والذي لن ينساه أبداً، لن ينسى التصاق جسده بجسدها، فذكراها لم تزل تربطه بوطنه، وببيته، وبسريره، وبتلفزيونه، وبجريدته، وكذلك بالحاكي الأثري الذي ما زال يغني له أغنيات أم كلثوم العطرة الدافئة.

أفق خفيف الظل هذا السحر.. نادى دع النوم وناج الوتر.. فما أطال النوم عمراً.. ولا قصر في الأعماق طول السهر. هكذا أصبح شعار أبي ليفة في هذه الحياة، تلك الحياة التي لم تعد تحمل إليه سوى عناوين الكآبة. إلا أن أهم شيء كان يشغل باله هو أن تكفيه تلك الدراهم المعدودة، التي تسمى راتب التقاعد، لشراء سجائره، وقهوته، وجريدة صباحه. حتى الطعام، لم يعد بحاجة إليه، إلا بالقدر القليل الذي يسد به رمقه.
وفي ليلة من إحدى الليالي الشتوية الباردة، وبينما هو برفقة الحاكي في قمة نشوته الطربية مع حبيبته كوكب الشرق، تصدح له بأغنية “لسه فاكر”، إذا بصوت عذب رقيق آت من بعيد يدندن الأغنية نفسها، كلمات ولحناً. وعندما وصلت الأغنية إلى مقطع ” النغم رجعت حلاوته.. القلب وفضلّك أساوته.. الهوى اللي هان عليّ.. ابتديت تعرف غلاوته” حك أبو ليفة أذنيه بشدة ليستشعر أكثر ذلك الصوت الجميل الذي يدندن بالقرب منه. فتح نافذة الغرفة وأخرج رأسه منها، ثم نظر يمنة فيسرة علّه يسترشد مكان الدندنة، لكنه عبثاً لم يستطع. أخفض صوت الحاكي قليلاً، فإذا بصوت الدندنة يرتفع قليلاً. نعم إنه لصوت شجي رائع، صوت أنثوي حنون يداعب قلوب المراهقين.
ترك أبو ليفة النافذة مفتوحة، بالرغم من البرد القارس، ثم جلس متكئاً على وسادته ذات اللون الأبيض المصفر، المعفرة برذاذ التنباك، ليستمع بكل نشوة إلى ذلك الصوت الجميل. وما إن انتهت تلك الوصلة الغنائية حتى وصل إلى مسامعه صوت تنهيدة طويلة، تلاها تثاؤب خفيف ممطوط، ثم إغلاق لنافذة خشبية، قد كان واضحاً بعض المعاناة في إغلاقه.
وهكذا، أصبحت تلك الدندنة نقطة تحول في حياة أبي ليفة، ولحظة حاسمة غيرت من معاشه الرتيب الممل، فعلى الأقل هناك الآن جارة قريبة منه، تشاركه حب الاستماع إلى معشوقته أم كلثوم، لا بل أكثر من ذلك، شريكة ذات صوت شجي يزيد سكّراً إلى حلاوة الاستماع نفسها.

في اليوم التالي استيقظ أبو ليفة باكراً على غير عادته. نظر إلى سريره فوجده لأول مرة في حياته، بعد وفاة زوجته، قذراً يستحق التنظيف، فحمل كل ما كان على ذلك السرير من رداء وغطاء ووسادة، ووضعها جميعاً في الغسالة التي لم يسبق له أن استعملها منذ العيد الفائت، ثم بدأ ينظف غرفته بنشاط بالغ، حاملاً أكوام فناجين القهوة، وإبريق الماء المعدني الصدئ إلى المطبخ، وبدأ بجلي جميع الأواني المتسخة، التي تناثرت هنا وهناك، بكل همة ونشاط، ثم عاد فرمى بالأوساخ، وبجرائده القديمة كلها، في سلة المهملات، حملها وخرج بها خارج البناء ليلقيها في الحاوية. وعندما أصبح أبو ليفة أمام الحاوية أخذ يفكر في استراق النظر إلى واجهة البناء الذي فيه بيته علّه يجد خيالاً ما لتلك المدندنة التي تخطت جدران قلبه، وبالفعل راح يتفحص البيوت جيداً، بيتاً بيتاً، وبخاصة تلك التي بجواره، إلا أن تحرياته المبدئية البدائية باءت بالفشل، فلقد كانت جميع النوافذ مغلقة اتقاء للبرد، وليس هناك أي أثر ظاهر، لا للمدندنة، ولا لغيرها.
وفي مساء اليوم التالي بلغ نشاطه الذروة، فالآن قد أصبح لديه زائر يشاطره روعة الاستماع إلى أغاني ست الكل، فما كان منه إلا أن قام إلى المطبخ النظيف، جهز لنفسه كوباً كبيراً من القهوة، ثم فتح النافذة على مصراعيها بعد أن لبس معطفه الأسود السميك اتقاء للبرد، ثم وضع إبرة الحاكي خاصته على أسطوانة كان قد انتقاها مسبقاً لهذه السهرة المنتظرة بعد أن مسحها بطرف كمه، وما هي إلا لحظات حتى بدأت شاديته أم كلثوم تصدح بأغنية “أقولك ايه عن الشوق يا حبيبي”. وما إن بدأ مقطع “اقولك ايه.. وايه يوصف هوايا.. وانا ف قلبي كلام مالوش نهايه” حتى عادت تلك الدندنة الجميلة تشارك ذلك الطرب الأصيل. أخفض أبو ليفة صوت الحاكي قليلاً، ثم تسلل برأسه شيئاً فشيئاً عبر نافذته المفتوحة، وأخذ ينظر منها هنا وهناك، باحثاً عن مصدر ذلك الصوت. وبالفعل، فبعد أن أدار رأسه إلى الأعلى وجد صدفة نافذة الطابق الثالث مفتوحة. مط رقبته أكثر محاولاً الاستشعار عن بعد، فوجد أخيراً ما كان يبحث عنه.
فرح أبو ليفة فرحاً شديداً بهذا الاكتشاف، هاهي الحياة عادت لتدب في جسده من جديد، لقد انتهت مع الدندنة ساعات طويلة من الأرق والحزن والتعب. أم كلثوم، آه يا حبيبتي، لقد كنت الغذاء لروحي، وستبقين كذلك ما حييت. وهكذا، أصبح شغل أبي ليفة كل يوم، استيقاظ باكر، تنظيف للبيت، رمي للقمامة، ثم السهرة المسائية مع إحدى أغنيات أم كلثوم، بمرافقة المدندنة، وبالطبع لا غنى عن كوب كبير من القهوة.
لم يرد أبو ليفة حقيقةً أن يتعرف على وجه تلك المدندنة، وكان يكفيه أن ترافقه سهراته وحسب. وهكذا، بدأ ينسى معظم أحزان غربته، وكثيراً من شقاء وحدته، وبعضاً من غلاظة جاره عدنان.

جاء العيد، وفي ليلة أول أيامه، سارع أبو ليفة محضراً أسطوانة أغنية أم كلثوم الشهيرة “الليلة عيد”، فقام بفتح نوافذ البيت جميعها، ثم رفع صوت الحاكي محاولاً أن يُسمع جميع جيرانه تلك الأغنية الرائعة، وصار يغني معها بصوت عال، محاولاً إسماع جارته المدندنة كلمات الأغنية وكأنه يقصدها بها “حبيبي حبيبي.. زي القمر قبل ظهوره يحسبوا المواعيد.. زي القمر يبعث نوره من بعيد لبعيد.. زي القمر بس جماله كل يوم يزداد.. وكل ما يهل هلاله تنعاد الأعياد.. والليلة عيد ع الدنيا سعيد.. عز وتمجيد.. لك يا حبيبي”. أخذ صوت أم كلثوم يصدح عالياً في الشارع، وشاركه في ذلك العديد من الجيران فرحين مستبشرين بقدوم العيد، إلا أن أبا ليفة كان حريصاً كل الحرص أن يتحسس فقط مشاركة جارته من بين تلك الأصوات الجيرانية، لكنها عبثاً، لم تشارك. بدأ القلق يدب في قلبه، لماذا لم تشاركني جارتي فرحة العيد يا ترى؟ نظر من نافذته إلى الأعلى ليتفقدها، لكن لا أثر لها، مع أن نافذتها مفتوحة، ماذا أفعل يا ربي؟ هل أصعد إلى بيتها واتفقد حالها؟ لبئس ما أفكر به، كيف لرجل مثلي يعيش وحيداً أن يتجرأ ويسأل عن سيدة جارة له؟ ماذا سيقول عني الجيران؟ بل ماذا سأقول لروح زوجتي؟ وبماذا سأبرر لابني عماد فعلتي هذه؟ لكنني والله لا أبتغي بالسؤال عنها سوى الاطمئنان عليها، الاطمئنان على شريك يثّمن عالياً طرب أم كلثوم، والله إني لصادق، والله إني لصادق، ثم أخذ يجهش بالبكاء في ليلة العيد!
فكر أبو ليفة كثيراً ماذا يفعل، إلى أن قرر أخيراً أن يطرق باب بيت المدندنة، مهما كانت العواقب. لكن ما هي حجة اقتحام خصوصية الجارة؟ لا بأس، سيسألها إن كانت المياه مقطوعة عن بيتها، كما هي مقطوعة عن بيته، بالرغم من أن كامل البناء يشهد ماءً منذ الأول من أمس. مع ذلك تجرأ أبو ليفة وقرع جرس الباب، لكن أحداً ما لم يفتحه. قرعه مرة ثانية، ولا أحد يرد. حاول استراق السمع لاصقاً أذنه بشق صغير في الباب، لكن لا حياة لم تنادي. أصاب أبا ليفة قلق شديد فأصبح كالمجنون، كل ساعة يصعد ليرن جرس جار المدندنة، من دون مجيب.
وفي مساء اليوم التالي أبى أبو ليفة أن يسمع أي أغنية من أغاني أم كلثوم، بل جلس يتربص من نافذته أي حركة في الشارع قد تأتي إلى أعلى البناء، لكن لا حراك محسوس كذلك. وبينما هو في قمة تربصه هذا، توقفت سيارة فارهة نحو الساعة الثانية صباحاً أمام البناء، لتنزل منها سيدة تبدو عليها علائم بنات الليل، وكان يرافقها رجل ضخم عريض المنكبين إلى ردهة البناء، ثم أخذا يتحدثان سوية لبضع ثوان حديثاً مقتضباً، لعل المتتبع لهما يستطيع اقتناص بعض مفرداته نظراً للسكون المخيم على المكان في هدأة تلك الليلة. ودع الرجل المرأة بقبلة خفيفة على خدها قائلاً لها: “أوروفوار”.
لم يعط أبو ليفة كثيراً من الاهتمام لما شاهده في ذلك اللقاء إلا بعد أن سمع وقع كعب حذاء تلك السيدة وهي تصعد الدرج، ثم تعالت قرقعة الكعب على سقف بيته. وما هي إلا لحظات حتى عادت دندنة ذلك الصوت الجميل لتكسر هدوء الليل بطقطوقة لطيفة للمطربة شادية “مخاصمني بقاله مدة.. وف ليلة الشوق ناداني.. كلمته سمعت حسّه.. وقفلت السكّه تاني.. اكمنّه يا ناس واحشني.. وخصامه كمان حايشني.. كلّمته سمعت حسه.. وقفلت السكّه تاني”. رقص قلب أبي ليفة فرحاً، واعتبر أن كلمات المطربة شادية تعنيه وحده، وتناديه للمشاركة. ومن دون أي وعي عاد فلبس أحسن ملابسه، وعطر نفسه، ثم فتح باب بيته، وصعد الدرج ليسأل إن كانت الماء مقطوعة عن جارته. نقر على الباب نقرة خفيفة محاولاً عدم لفت انتباه الجيران لما يفعل، وإذ بالباب ينفتح عن امرأة أربعينية العمر، فائقة الجمال، وجهها ملوّن بشتى الأصبغة، يفوح منها عبق عطر ثقيل، ممزوج برائحة دخان السجائر، ترتدي قميص نوم شفاف يبدي معظم مفاتنها. ارتبك أبو ليفة كثيراً عندما رأى صديقة نافذته وهي شبه عارية، فارتبط لسانه من عِظم المفاجأة، ولم يعرف ماذا يقول. لاحظت المدندنة ارتباك ودهشة جارها، فحاولت أن تتدلل عليه وتزيد من ارتباكه، فقامت بتكتيف يديها إلى أن بدا معظم نهديها الكبيرين وكأنهما مصطفان اصطفافاً على ساعديها، قالت له وهي تبتسم بكامل الغنج: “بونسوار ياحلو، نعم، شو بتأمر؟”. انعقد لسان أبي ليفة بعد أن شاهد ما شاهد، فنسي كل ما أراد قوله عن انقطاع الماء من هول ذلك المنظر غير المتوقع، والحقيقة أنه لم يتذكر في تلك اللحظة سوى حضن أمه العاري وهي تحممه، فما كان منه أن سأل جارته المدندنة بشفتين ترتجفان، دخلك ماما أجت لعندكم شي؟ ضحكت المدندنة ضحكة عالية، أيقظت بها عديد الجيران، ثم قالت له وهي تقرص خده المتجعد: “لا يا تقبر أمك، ماميتك مو هون، بس إذا بتحب بورجيك ياها شخصي، تعال فوت إذا معك مصاري.. بس على فكرة.. شوفة الماما عندي بالدولار يا روح أمك”.
نزل أبو ليفة إلى بيته شبه هارب، وما إن وصل إلى غرفته حتى أغلق نافذتها بإحكام بعد أن صعقته قشعريرة مصحوبة برجفة أنهكت كل عضلاته، لكنها مع ذلك لم تثنه عن وضع الأسطوانة على الحاكي. ثم دك نفسه في سريره المملوكي لينام على أنغام أغنية معشوقته أم كلثوم “يلي كان يشجيك أنيني كل ما شكيلك أسايا، كان منايا يطول حنيني للبكا وانت معايا”.

*أديب قاص- وزير التعليم السابق في سورية
*(اللوحة للفنان التشكيلي كلاي قاسم- مصر)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى