كمون الصين .. صعود في سياق عالمي .. يزيد جرجوس

كثيرا ما يُقرأ صُّعود الصين القوي في الأشهر الأخيرة، بصورٍ من الإعجاب والتقدير، وأحيانا قليلة بمحاولات من النيل والنقد، ولكنّ الجّميع تقريباً متَّفِقون على أنّ الصّين اليوم بدأت تحتل موقعاً متقدماً في النّظام الدّولي الحالي المتبدل، وأيضا على حالة العولمة الإنسانية فتتّخِذُ لها مكانة مرموقة في ذهنية الشعوب، رغم أنها لم تصل بعد لمكانة تجعل منها مثلاً “مقصداً للهجرة والاستيطان” كما هو حال الدول التي تعتبر قوى كبرى في عالم اليوم، ولكن هذا الصعود الصيني أحياناً يتم تقديمه على أنّه “قرار” أو “اجتهاد” للقيادة الصينية الحالية للرئيس (تشي جين بينغ)، في حين أن الكثير من المعطيات تؤشر إلى أنّه أبعد من ذلك، خاصة إذا قاربناه من زوايا متعددة تأخذ بعين الاعتبار دور القيادة الصينية الحالية، ولكن ضمن سياقات التطورات الكبيرة والسابقة والمسايرة على الساحة الدولية، والتي تتخذ فيها الصين وروسيا كحليفين متميزين، أدواراً متكاملة ومتناغمة.
إن الإعلان عن المُصالحة السعودية الإيرانية من الصين وبرعايتها، وبعد سنوات من السيطرة الغربية الأميركية على ملفات المنطقة، وخاصة هذا الملف الأكثر حضوراً وإشكالية في كل ساحات الصراع والمعارك من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن، والتي كانت دائماً تعبيراً في بعض وجوهها عن تلك “المواجهة بين إيران والسعودية” المبتكرة والمدفوعة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا في سياق تبريد وربما إنهاء حالة الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال عدة محاور يتقدمها أبتكار صراع جديد في المنطقة، إنّ هذا الإعلان حمل ما يمكنني توصيفُهُ بالقرار الصّيني للدخول الصَّريح إلى ساحة صناعة الأحداث والتّوازنات السّياسيّة الدّولية، بعد عقود من العمل الاقتصادي الصامت والمديد، فهو لم يكن حدثاً قوياً بحد ذاته بل تعبيراً عن مسيرة من بناء القوة وحجز الأدوار التراكمية.
كان مشروع “الحزام والطّريق” المتوثب الواثق الذي يسير بهدوء رغم كل الضغوطات والمكائد والحروب التي فُجِّرَت هنا وهناك لغرض لعرقلته، هو التّعبير الأكبر عن تلك القوة المتعاظمة وذلك الدور المتراكم، وهنا بيت القصيد فيما أبحث فيه.. إنّه مفهوم تراكمية هذا الخط الصيني الصاعد، والذي بدأ منذ عهد الرئيس المؤسس (ماو تسي تونغ) فالصين منذ تلك العقود كان واضحاً أنها قررت النهوض إلى الساحة الدولية كدولة كبرى أو عظمى على الأكثر، ومن خلال الدّاخل عبر تحويل الصين إلى مارد صناعي لا يُمكن الوقوف في وجهه، ولكن التعامل معه والاستفادة منه، كان ذلك واضحاً رغم التعثر والاجتهادات غير الموفقة في البداية، والتي تعزى أكثر ما تعزى للإصرار على خوض التجربة الذاتية بمقوماتها ومعارفها التي كانت بحاجة للمزيد من البناء والصقل والخبرة، خاصة وأن التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وفي الصين التي استلهمتها، كانت تفتقر إلى التراكم والخبرة شأنها شأن كل التحولات التاريخية الشعبية التي تميل إلى القطيعة مع الماضي القريب، وهذا أكثر ما ينتج الأخطاء والهدر الحضاري في تجربتها.
ولكن الصين برغم ذلك حجزت لِنَفسِها موقعا مرموقا في العالم العربي مثلا وفي أفريقيا وفي آسيا نفسها، وكذلك وبصورة لافتة في الغرب الذي تُعتبر دوله من أهم الشركاء الاقتصاديين لها، برغم كل الصّريخ والتّرويج الغربي تجاهها ولكنها تشكل بالنسبة للغرب “شرا لا بد منه” في ظل تآكل القدرات الغربية على احتكار الصناعة والتكنولوجيا، تماما كما شكل الغرب بالنسبة لها ذلك “الشر الذي لا بد منه” نفسه، فهو كان السوق الأكبر لماكينة الانتاج والتصنيع الصينية على مدى عقود (حيث تتصدر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التتالي قائمة المستوردين من الصين على مستوى العالم) وهذا ما مكنها من بناء ثروة مادية كبيرة، تستطيع اليوم من خلالها مواجهة نفس هذا الغرب، مواجهة من الواضح أنها ليست الوحيدة فيها، فهي الحليف الموثوق والأكثر قربا وتنسيقا مع روسيا رأس حربة العالم الحر الصاعد، ولكن تلك الشراكة الاقتصادية العميقة والكبيرة تشرح لنا أيضا سطحية التصورات التي ترنو أو تتوقع مواجهات مباشرة وقطيعة بين المعسكرين الشرقي والغربي في العالم.
إن القرار الصيني باستعادة المكانة والموقع على الساحة الدولية، لا بل والصعود لِقِمَّتِه ربما، لم يكن وليد السنوات الماضية، ولكنّه كان قد أُسِّسَ له منذ عهد الزعيم المؤسس (ماو تسي تونغ) ففي زمنه كان قد اتُّخِذَ القرار بإطلاق مشروع تحويل الصين لبلد صناعي كبير، وهو مشروع برغم إخفاقاته عَبَّرَ عن تلك الرغبة القوية بالبناء والقرار الحاسم بالصعود.
كما أن إطلاق الخطط الخمسية (1953) واستعادة المقعد الدائم وكافة حقوق الصين في الأمم المتحدة (1971) وإطلاق أول قمر صناعي صيني (1970)، وتأسيس المشروع النووي أيضا، كل ذلك يخبرنا عن الأرضيَّة التارخيّة للسعي للمشاركة في السيادة على العالم، ولكنَّه وبنفس الوقت ولأسباب تتعلق بالشّخصيّة الصّينيّة وللظروف والتحديات التي كانت تواجهها، لجهة الكتلة السُّكانية الكبيرة، وتركة الاقتصاد الزراعي المُتَخلِّف، والتّحديات الدّوليّة الكبيرة خاصة وجود قوى كبرى مهيمنة تضع خططها للبقاء، ومستعدة للقتال في سبيل الحفاظ على مكانتها في العالم وتتبيع الدول النّامية لها، كل ذلك دَفع القيادة الصّينيّة لانتهاج سياسة الكمون ومراكمة القوة والانتظار.
خلال العقود الماضية بَدَت الصّين على السّاحة الدّوليّة وكأنّها غير معنيّة بِما يَحدُث في السّياسة، وحتى أنّ بعض المحللين كانوا يقرؤون ذلك على أنّه اكتفاء بالهجوع في الصفوف المتأخرة، بينما كان آخرون، وكاتب هذه الأسطر منهم يعتقدون بأنها كانت تُمارِس الاختفاء ريثما يحين التوقيت المناسب. هذا التوقيت لم يكن معزولا عن سياسات حلف عريض من الدول بدأ يتشكل ربما مباشرة عقب تفكُّك الاتحاد السوفييتي، ابتداء من روسيا والصين ومن ثم انضمام دول كازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان لتشكيل (منظمة شنغهاي للتعاون 2001) بناء على (منظمة شنغهاي الخماسية 1996) تلا ذلك انضمام إيران والهند، ثم ما لبثت روسيا والصين والهند مع البرازيل وجنوب أفريقيا أن أسست منظمة (بريكس 2009) في روسيا، والتي وصلت اليوم في مطلع 2023 للتفوق على (مجموعة 7) باستحواذها على 31.5% من الاقتصاد العالمي مقابل 30.7% للدول السبع التي كانت تعتبر نفسها “الأقوى والأكثر تقدما” ما يبدو أنّه صار خبرا من الماضي الذي لن يعود.
هذه المعطيات كلها مع خطوات الصّين باتّجاه التنفيذ الواثق لمشروع (الحزام والطّريق) الذي تم إطلاقه في (2013)، مثل استئجار ميناء (جوادر) الباكستاني على بحر العرب لمدة (43 سنة عام 2015) والبدء بتطويره، ضمن إطار مشروع الحزام الهادف لربط الصين بالعالم كوريث مستلهم من (طريق الحرير)، تأتي ضمن تطورات سياسية واضحة خلال العقد الماضي على مستوى العالم، وتحديدا في منطقة أوراسيا و”الشرق الأوسط”، المنطقتين اللتين بدأ المعسكر الغربي من خلالهما محاولة إجهاض مشاريع الدول آنفة الذكر لتغيير شكل النظام الدولي أحادي القطب، فبدأ مشروع “الفوضى الخلاقة” مما سماه الغرب “الثورات الملونة” ثم “الربيع العربي” لقطع خطوط سير المشاريع الاقتصادية الشرقية وفي مقدمتها (الحزام والطريق) ولإخراج روسيا والصين من الشرق الأدنى وإبعادها عن البحر المتوسط عبر تدمير دول مثل سوريا وليبيا واليمن، ومحاولة إشعال النار في طرق أخرى آسيويّة وأفريقيّة (أرمينيا والسودان مؤخرا)، تقدم المعسكر الشرقي لإجهاضها جميعا، وخاصة على الساحة السورية الأبرز والأكثر أهمية، ولكن ذلك اتسم بسياسة النفس الطويل لأن المعسكر الشرقي ولمجمل المعطيات المذكورة ولرغبته بالبناء والصعود مع الحفاظ على الخصوم كونها تشكل شركاء مهمة في الحفاظ على التنمية والتوازن الدوليين، كان يفضل الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية التي حتى وإن استطاع توجيهها للغرب، فهو لا يحتمل نتائجها. إنّه الشكل الحقيقي والموضوعي للصراع الدولي الذي قد يجد البعض صعوبة في فهمه أو تقبله، وهذا لا يغير منه شيئا، وقد جاءت العملية العسكرية في أوكرانيا مؤخرا لتغير شيئا مهما من قواعد الاشتباك الهادئة وتعطيها المزيد من الزخم والحرارة، وتمنح عدّة دول فرصة أوسع للتعبير عن مواقفها الراغبة في التغيير أو الآخذة به بالفعل، خاصة مع انكشاف “القوة الوهمية” لمعظم دول الغرب التي بدأت تئن تحت وطأة المواجهة مع روسيا، وبدأت تفقد مكانتها “المحصنة” في الذهنية العالمية على مدى عقود.
إنّ السّلوك الصّيني المُتناغم والمُتوازِع في الأدوار مع روسيا، والذي اتّسَمَ بالهدوء والصّمت، لم يكن إلا تعبيراً عن تحضيرات مُحكمَة ومُخطّطٌ لها بشكل جيد ليس فقط على مستوى الحزب الشّيوعي الصّيني ولكن على مستوى مجموعة من الدول تبدأ بروسيا وتمر بالصين ولا تنتهي بإيران، قررت جميعها تغيير شكل النظام الدولي، وهي تنفذ ذلك بنجاح وحكمة ورباطة جأش.
إقرأ أيضاً .. المُصالَحَة .. حَقيقَةٌ مَوضوعيَّة ..
إقرأ أيضاً .. سلمان رشدي وفتنة “الرأي المشروع” ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب