كلُّ الطُرق تُؤدّي إلى برلين .. غسان أديب المعلم ..

دائماً ماكان التاريخ يضع بيضة قبّان الأزمات في برلين، سواء عبر رمي الكرة في ملعبها، أو صدور القرار، أو المساهمة في صنعه، وصولاً للنتيجة.
فألمانيا كانت محور أهم حدثين عالميّين في العصر الحديث عبر دورها بالحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي ورغم خساراتها الفادحة فيهما عادت لقوّتها وألقها و ظهور دورها من جديد في أغلب المحافل الدوليّة، عبر نهضة اقتصاديّة مُرعبة شكّلت خمسة بالمئة من الناتج الإجماليّ العالميّ، وكذلك الأمر موقعها في وسط أوروبا وقيادتها لها ضمن الشراكة الأوروبيّة، وصولاً لأن تكون ضامناً وراعياً ومُفاوضاً مع أعضاء مجلس الأمن بالملف النووي الإيراني، عدا عن مساهمتها في الكثير من الأزمات وحلولها كأن يكون الأسطول الألماني مراقباً للسواحل اللبنانيّة، ومقبولاً من كلّ الأطراف المتنازعة بعد حرب تمّوز.
اليوم .. بعد مرور ما يقارب الشهرين على بداية الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والتأكيدات الغربية على أن أمد الأزمة سيطول وأنها مرشحة للمزيد من الانتشار والتوسّع عسكريّاً واقتصاديّاً، ومع فشل المحاولات الدبلوماسيّة حتى الأن، وبعد انخراط الكثير من دول العالم في الأزمة سواء عبر الدعم المباشر لأوكرانيا بإرسال السلاح والعتاد، أو الالتزام بحزم العقوبات الغربية الأشد في التاريخ ضد روسيا، أو بالاصطفاف السياسيّ مع هذا المحور أو ضده، ومع السعي الحثيث لاستكمال طوق الناتو حول روسيا بإعلان السويد وفنلندا دراستهما لطلب الانضمام إلى حلف شمال الاطلسي لأجل الأمن والأمان بحسب تعبيرهما، مع كل ما سبق يتبادر إلى الذهن السؤال عن ألمانيا وأهمية دورها في هذه الأزمة.
هل فعلاً سيكون دور ألمانيا هو “بيضة القبّان” لترجيح كفّة أحد الفريقين على الآخر ؟.
سواء كانت الحرب مسرحيّة هزليّة متّفق عليها في كواليس الدول العميقة أم أنها تحمل طابع الجدّ .. فألمانيا حتى اللحظة، ورغم أنها عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وقريبة جدّاً من منطقة النزاع العسكري الفعليّ، فهي لا تزال عملياً على مسافة واحدة، في المنتصف، رغم علانيّة اصطفافها السياسيّ ضدّ العملية الروسية.
ما يؤكّد هذا الأمر هو اتهام أوكرانيا المُتكرّر لألمانيا بالتخاذل في الدفاع عنها، وعدم إرسال أسلحة دفاعيّة لأوكرانيا بشكل مباشر وعلى نحوٍ كافٍ، وكذلك عدم التزام ألمانيا الكامل بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا.
الحقيقة أن ألمانيا بالفعل تحاول إمساك العصا من المنتصف في موضوع العقوبات الشديدة على موسكو وخاصة في مجالات الطاقة، فهي علّقت العمل بمشروع 《نورد ستريم 2》، لكنّها لم تتوقّف عن شراء الغاز الروسيّ عبر خط 《 نورد ستريم 1》، ولا تزال تحاول إيجاد مخرج مناسب لهذا الأمر يُرضي اقتصادها أوّلاً، ومن بعده شركاء الحرب..
بدورها تعمل الدبلوماسية الألمانية أيضاً ليل نهار لكبح جماح الحرب العسكريّة وإيقافها، لتتفرّغ و تناور في الملفّ الاقتصاديّ الشائك بعيداً عن رحى الحرب، لتخرج كمستفيدة من بقاء العقود الموقّعة مع روسيا دون تعرّضها للعقوبات على أقلّ احتمال..
وأعتقد، بعيداً عن “الكلام الشعبوي” الذي يضع أوروبا بقادتها وشعوبها مثل كرة قدم عند اللاعب الأمريكي، أعتقد بأن الضغوط الأمريكيّة والأوروبيّة بأكملها تنصبّ على برلين لاتخاذ قرارٍ بالتصعيد أكثر ضدّ روسيا عسكريّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، لكن المصلحة العليا للبلاد تقف حاجزاً أمام هذه الضغوط لتوسيع رقعة الحرب..
الأيام القادمة كفيلة بإظهار دور ألمانيا في التصعيد أو التهدئة، وتؤكد مشاركتها من عدمها بالقوّة العسكريّة أو الاقتصاديّة، وعليه ستكون النتيجة الختاميّة لهذه الحرب المجنونة تمرّ عبر برلين وتحت رعايتها.
أخيراً .. التاريخ يقسو على من لا يعتبر من دروسه جيّداً، والتاريخ يقول بأنّ للألمان الدور الأكبر في النزاعات، والمقال ليس في وارد إظهار عظمة ألمانيا بل لأجل تسليط الضوء للحكومات “المارقة” التي تنتظر ردات الفعل التي ستقع فوق رأسها، بأن مصلحة البلاد العليا أهم من مصالح الحلفاء قاطبةً ولو تماهت معها.
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب