العناوين الرئيسيةحرف و لون

كرامة مواطن ! … سامر خالد منصور

لوحة الفنان : محي الدين حمصي

 

كان “المعلم أبو جبار” مُنزعجاً بسبب إرباكات معوية أصابته جرَّاء تناوله وجبَتي غداء، إضافة إلى كونه لم يَنل قِسطاً كافياً من النوم بسبب سهرته الحمراء مع مومسٍ نرويجية ذائعة الصيت. كانت عيناه الكبيرتين ثابتتين وكأنهما تُحدِّقان في الفراغ فقد سَئِم منظر الشوارع الأوروبية التي تشبه إلى حدٍّ ما شوارع بلاده، لم تكن ملامح السأم تُناسبُ وجهه، الذي لم تكن أيُّ ملامح أخرى لتناسبه أيضاً، فله فمٌ ضفدعي ذو الشفاه جَمَليَّة، ويبدو القسم العريض من وجهه الذي يقع أسفل أنفه أشبه بحوضٍ تطلُّ منه بقية وجهه. كان “أبو جبار” مُرعباً إن غضب، وأكثر إخافة إن ضحك، فالضحكُ يُجلي في عينيه وقسماته مَزيجاً من الشرِّ والشَبق والبلاهة وياله من مَزيجٍ مُرعب.

كوطواطٍ داخل كهفه في النهار كان يلفُّ نفسه بمعطفه الطويل الأسود ضاماً ذراعيه إلى جسده داخل سيارته الفارهة سوداء النوافذ، بينما كان سائقه أحمد يُكابد كي يدفع عن نفسه أحلام اليقظة خلال قيادته للسيارة، وإلى جوار أحمد كان مُرافقهُ الضخم الأقرع طويل اللحية “أبو عَكر” جالساً مُباعداً قليلاً بين جسده وذراعيه كما اعتاد منذ أن كبرت عضلاته وأضحى مُرافقاً للمسؤول الكبير جداً جداً جداً “أبو جبار”.

كان “أبو عَكر” أشبه ببطة مُترددة بشأن الطيران لا هي تفرد جناحيها على وسعهما ولا هي تضمهما إلى جسدها.

تلقى أحمد مُكالمة هاتفية، فأجابها على غير العادة، وبدت عليه أمارات البِشر والابتهاج على نحوٍ لا يُتَوقَّعُ من كادحٍ مثله. أوقف السيارة، فتحرك الوطواط البدين “أبو جبار” وقال بصوته الكهفي العَفن: من سمح لك بالتوقف أيها الأحمق؟! ألا يكفي أنك أجبت مُكالمة وردتكَ دون إذنٍ مني؟!

بدا أحمد غارقاً في أحلام اليقظة غير مُكترثٍ للوطواط الضخم عديم الذيل الذي يُحدِّثه. تابع “أبو جبار” قائلاً: أنا أُحدِّثُكَ أيها التافه، التفت إليَّ، هذا خطؤك الثالث مُذ عملت لديَّ، أم تحسبني نسيت أنك مُنذ عامين تأخرت عليَّ وجعلتني انتظرك ثلاث دقائق كاملة.
نزل أحمد من السيارة وقد ضاق فمه بابتسامته حتى آلمته وجنتاه. فتح “أبو جبار” الباب وخرج وهو مازال يضمُّ ذراعيه إلى جسده كالوطواط وقال بغضب: يا حشرة كيف تنزل من السيارة دون إذنٍ مني؟ اصعد وتابع القيادة، وحين نعود إلى بلدنا لي معك حسابٌ عسيرٌ سيُنسيك حليب أمك.
التفت أحمد إلى “أبو جبار” وقال بكل هدوء: أنا لم أعد أرغب بالعمل لديك بعد الآن، أنا ذاهبٌ في حال سبيلي. وبالنسبة لمُستحقاتي عن الأيام التي مَضت من هذا الشهر فأنا أتركها لك، لست أريد منك شيئاً.
ماجت القسمات والترهلات في وجه “أبو جبار” حتى أضحى له ملامحٌ هي مزيجٌ من ملامح ذئبية وأخرى جاموسية، وقال وشدقاه المُرعبان يصطفقان بمقاله: ومن أنت أيها الصعلوك حتى تستقيل من خدمتي؟! ومن تحسب نفسك أيها التافه حتى تُقرر بنفسك متى ستترك العمل عندي؟! هل فقدت صوابك ؟! ألم تعد تعرف قدرك؟! أمازلت تضع عينك في عيني يا حيوان، أخفض رأسك وانقبر في السيارة، والله لأنسينَّكَ حليب أمك لاحقاً.

قال أحمد: كلامك مَردودٌ عليك، أما قراري بترك العمل عندك فلا رجعة فيه، لذا أنصحك أن تأخذ سيارتك وتذهب حرصاً على وقتي ووقتك.

احمرَّ وجه “أبو جبار” وبرزت أوداجه فبدى كفرس نهرٍ يَغصُّ ببطيخة كاملة.
نزل “أبو عَكر” من السيارة و أخذ يُحرِّكُ ذراعيه تمطيةً لعضلاته ثم شَرع يُطقطقُ مَفاصل عُنقه.
قال أحمد: لقد سبق لي مُنذ أربعة أعوام أن تزوجتُ سرّاً امرأة نرويجية وكانت تأتي كل صيف إلى فندقٍ في بلدنا. وأمس أبلغوني أنني حصلت على الجنسية النرويجية، وقبل قليل ذهبت زوجتي وتأكدت من الأمر بنفسها بناءً على طلبي ثم هاتفني….. قاطعه “أبو عَكر”: تقول “أبو جبار” هكذا دون كلمة سيدي ودون ألقاب؟!

تابع أحمد قائلاً: كما ترى يا “أبو جبار” هاتفي مازال مُنذ أنهيت الاتصال في يدي وقد سَجَّلتُ لك كل ما قلته لي من إهانات مُتلاحقة، وسأنشرها في مواقع التواصل الاجتماعي في بلدي الجديد النرويج بل وسآخذها إلى إعلامنا النرويجي، كي ينشرها تحت عنوان “مسؤول عربي ينال من كرامة مواطن  نرويجي في وضح النهار”.

ابتسم أحمد ابتسامة عميقة، بينما بدا وجه “أبو جبار” وكأن ملامحه أُجهِضَت و أُعيدَ ولادتها، وبعد ولادات عديدة قيصريَّة، استقرَّ وجهه على ملامح لم يسبق لأحمد أو “أبو عكر” رؤيتها، كانت ملامح إنسان طبيعي، ملامح رجلٍ خمسيني ودود شفته الجَمَليَّة السُفلى لم تَعُد مقلوبة، عيناه لم تعد كسولتان، وبلادة اللامبالاة تلاشت تماماً. فرّق ذراعيه اللتين كانت إحداهما تعلو الأخرى فوق كرشه، فتلاشت هيئتهُ الوطواطية وأخذ يسير نحو أحمد كفرخِ بطريقٍ لطيف، تحدث بنبرة ودودة وكأن كهف حنجرته قد انحسر ليغدو حنجرة طبيعية، حتى تلك الأصوات البشعة التي كانت تُمازج صوته، وتشبه صوت أقدام رجلٌ حافٍ يركض في مُستَنقعٍ طيني، تلاشت كلها.
قال: معذرة منك كنت أحسبك ابن بلدي، أرجو أن تسامحني يا سيد أحمد وكما يقول المثل “يلي ما بيعرفك بيجهلك”، لم يكن لديَّ علم أنك أصبحت من الرعايا الكرام للنرويج.
قاطعه أحمد قائلاً: أنا لست رعيةً لأحد، أنا مواطن نرويجي، موطن وليس رعيّة هل تفهم؟ هذه كرامة مواطن !
ردّ عليه: معذرة منك لم أقصد الإساءة لا سمح الله، أرجوك تقبل خالص اعتذاري ووافر امتناني لأنك شرفتني بخدماتك الطيبة طوال تلك السنوات، وإن كنت تريد تعويض نهاية خدمة، فسأحرر لك “شيكاً” بالمبلغ الذي تريد، ولي عندك رجاءٌ صغير أعطِ هاتفك إلى “أبو عَكر” كي يحذف التسجيل، وأرجوك لا تُخبر أحداً بما حدث.
أحمد: لا، لن أفعل، الزمن الذي كنتُ فيه مُجبراً على بيع كرامتي قد ولّى وانقضى.
قلَّبَ “أبو جبار” ناظريه في المكان حوله حائراً ثم نظر إلى “أبو عَكر”.
تابع أحمد كلامه: لا تنظر إلى “أبو عكر” لن ينفعك في شيء فأنت وسواك كنتم تؤكدون له ضرورة احترام الناس في النرويج ومُراعة الأنظمة كافة والوقوف بهدوء وصبر في صفوف الانتظار في المحال التجارية وسواها.

قال “أبو عَكر” بثقة: لا تكن عنيداً يا أحمد، أنا لا أستطيع إيذاءك لكن مُعلمنا “أبو جبار” رجلٌ ذو صِلات واسعة، قد يُهاتف الآن “أبى جبار” الخاص بالنرويجيين وحينها لن ينفعك الندم.

ضحك أحمد حتى مَلأ صوته الشارع، ثم قال: “قلتي أبو جبار النرويجي” أمثال أبو جبار” هذا لا يمكن أن تجد مثله في النرويج إلا في المصحات العقلية مع بقية السيكوباتيين- (السيكوباتي هو من ظهر أنماط من التلاعب وانتهاك الأخرين، وان هذا السلوك يتعارض مع قواعد وسلوكيات المجتمع)- والساديين والمُصابين بجنون العظمة أو ما شابه.
قال “أبو جبار” وهو يُخرجُ السُبحة من جيبه ويشرع بالتسبيح: “كرمال شيبة عمك أبو جبار الله يخليلك هالشبوبية ويسعدك وينور دربك”.
فأجابه أحمد: مهما قلت ومهما فعلت سأنشر عن هذه الفضيحة، وسأدع النرويج وأوروبا كلها ترى مقدار تنمُّرِكَ و ازدرائك لي، وجميعنا يذكر التسجيلات المصورة التي عرضتها كل الشاشات العربية والعالمية للقطة النرويجية التي سقطت في النهر مُنذُ يومين وكيف قامت الدنيا ولم تقعد حتى أخرجوها وكيف تفاعل العالم كله معها، فما بالك الآن وأنت قد نلت من كرامة مواطن نرويجي.
قال “أبو جبار”: أرجوك، تعلم أنني في منافسة حامية الوطيس مع “أبو العُلا” للسيطرة على أسواق منتجاتٍ عِدَّة هنا في النرويج، إن نشرت مالديك فقد يُلغون إقامتي ويمنعونني من دخول النرويج. وكما تَعلم، مُدراء شركاتي ومصانعي هنا قد يستغلون غيابي ويسرقونني، لا بدَّ لي من زياراتٍ مُفاجئة كل حينٍ وآخر إلى النرويج، أرجوك تذكر أن العفو عند المقدرة من شيم الكرام.
حدَّقَ أحمد في وجه “أبو جبار” الذي كان جَبينه يَتفصَّدُ عرقاً وأخذ يبتسم ثم قال: هيا خُذ سيارتك ومُرافقك وامضِ ادخاراً لوقتك، أما أنا سأرقص قليلاً في شوارع وطني الحبيب النرويج قبل أن أذهب لشأني.

فجأة عادت الأمراض والعُقد النفسيَّة ترسم توليفتها العجيبة على وجه “أبو جبار” وانفرطت السُبحة التي بين كفيه، وبدت حباتها وكأنها تقفز مُتعجلةً الابتعاد عن شرٍّ عظيم يكاد أن يقع، توطوط “أبو جبار” مُجدداً في وقفته وأخذ يبتسم ابتسامة خبيثة ألقت الرعب في قلب أحمد.

قال “أبو جبار” بصوته الكهفي: نعم، نحن في النرويج. ثم شرع يُقهقهُ ويقهقهُ حتى تصادت قهقهاته في أرجاء المكان، ثم قال بثقة مُطلقة: سأدع “أبو عَكر” يدوس رأسك “يا واطي يا صرماية” سأجعلهُ يكسر لك ساقاً وذراعاً وضلعين، ويجعلك تبتلعُ حطام هاتفك المحمول مع بعض أسنانك، أتتحداني أنا صاحب الإرث العظيم، وما أدراك ما إرثي العظيم.
اضطرب “أبو عكر” وأخذ يرفع حاجبيه بحركة لا إرادية نافياً نيته الامتثال لأوامر “أبو جبار” لكن ذلك لم يُخفف من الرعب الذي جثم في صدر أحمد وأخذ يعصر قلبه كما تعصرُ امرأة بدينة كثيرة الأولاد غسيل زوجها وقد اكتشفت خيانته لها.
كشف “أبو جبار” عن جيبه الأيسر وقال: انظر إلى تلك السلسلة الصغيرة التي تتدلى من جيبي، أتحسبها سلسلة مفاتيح؟ إن هي إلا أصفادٌ مُنتهاها إلى معصَميّ إبليس، إن إبليس مُصفدٌ ومُلقى في جيبي الصغير هذا. ثم أردف بصوتٍ أجشٍّ جارحٍ لمسالكه، وكأنَّ صخوراً تتساقط وترتطم في حنجرته الكهفية: أحقاً تحسب أيها الغرُّ التافه أن بإمكانك ليَّ ذراعي؟
ثم دنى من “أبو عكر” وفتح هاتفه المحمول وأخذ يُري “أبو عكر” صوراً خلابة.
قال “أبو عكر”: سيدي يالها من فيلا واسعة خلابة بهيَّة الديكورات، يالحديقتها الرائعة، ما كل هذه الملاعب، وأدوات تمرين اللياقة البدنية؟ أتنوي شراء هذه الفيلا العملاقة يا سيدي؟
تعمقت ابتسامة “أبو جبار” الخبيثة واتسعت، وتابع تقليب الصور على شاشة هاتفه وهو يقول: هذه صور سجن هذه المدينة إنه سجن “هالدن”، هكذا هي السجون في النرويج يا عزيزي، انظر هذه أيضاً، إنها لائحة الطعام، لحم غزال، لحم سمك، لحم غنم، لحم أرانب… إلخ.
قال “أبو عكر” والدهشة تصفعه حَدَّ تأرجح حدقتيه واهتزاز قسماته: أنت تقصد يا سيدي أن تقول أن هذه فيلا مُدير السجن، أليس كذلك؟
“أبو جبار”: لا، هذا سجن “هالدن” هكذا هي السجون في النرويج، انظر إلى كل تلك الآلات الموسيقية أيضاً، إنهم يؤمنون بما يسمونه العلاج النفسي بالموسيقى.
“أبو عكر”: سيدي أكاد لا أصدقُّ عينيَّ مُحالٌ أن يكون الأمر على هذا النحو، أيعقل أنهم هكذا يُعاملون حتى المُجرمين من أفراد شعبهم؟! سيدي هل أنت واثقٌ من أنها صورٌ لجميع أرجاء السجن ، تأكد أرجوك “خايف يكونو مخبين شي جاموقة هون ولا هون”.

“أبو جبار”: اطمئن لا “جواميق” حتى أنهم يسمحون للنساء بزيارة المساجين كل يومٍ تقريباً فهم يدركون أهمية عدم تعرض السجين لأيِّ شكلٍ من أشكال الكبت كي لا يؤثر ذلك سلباً على سلامته النفسية، وأنا أعدك أنني سأرسل لك فتاة جميلة كل أربعة أيام، والآن كلُّ ما عليك فعله هو سحق ذلك الوغد التافه.

نظر “أبو عَكر” نحو الأفق نَظرةً حالمِة وديعة، ثم قال: سيدي هل بإمكان السجين “انو يعمل لم شمل” كما تعلم لديَّ شقيقة مُعيدة في الجامعة وشقيق مهندس وأم مريضة وكم أتمنى أن يأتوا ويمضوا بقية أيامهم معي هنا، أرجوك يا سيدي أعطهم ثمن التذاكر، على الأقل أمي فأنا أجزم أنه لم يبقَ من عمرها شيءٌ يُذكر، أرجوك انظر إلى تلك الحديقة وإلى تلك المشاهد الطبيعية الخلابة، وإلى تلك الأطعمة، أكاد أقسم ان سنيَّ عمر والدتي ستتضاعف إن هي أقامت معي في هذا السجن، وإذا أردت سأطلب من أمي أن تضرب أم أحمد.
كما حَبات السُبحة قفزت أسنان أحمد على اسفلت الشارع وداسه “أبو عكر” كما تُداس القمامة المُزعجة التي تفيض فوق سلة القمامة كي تُحشر، وكذلك حُشرت أعضاء جسده تحت وطأةِ قدمي “أبو عكر” الثقيلتين.
صدر تصفيقٍ خافت من داخل جيب المسؤول “أبو جبار” إنه صوت كَفَّي إبليس.
.
*كرامة مواطن … للكاتب الفلسطيني سامر خالد منصور- سوريا

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى