فضاء الوسط

كأس العالم وتناقض الحضارات .. محمد العمر

أعادت تجربة كأس العالم إلى الأذهان فكرة التناقض بين الحضارات التي لخّصها الأمريكي صامويل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات.

إذ رأى هنتنغتون أن نوعية الصراعات بعد نهاية الحرب الباردة، جرّاء انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه جدار برلين، لن تكون كما رآها فرانسيس فوكوياما، انتهاءً للتاريخ وموتاً للإنسان الأخير، بل بداية لنوعيّة أخرى من الصراع.

هذا الصراع المستجد لن يقوم على أسس الدول القومية بحسب هنتنغتون، بل بحسب حضاراتها وثقافتها، الأمر الذي اتضح عملياً في مونديال قطر 2022.

لقد وضع لاعبو المنتخب الألماني يدهم على أفواههم في الصورة التذكارية لأولى مبارياتهم في المونديال، صورة ستبقى حاضرةً لعقود، في إشارة منهم إلى إعلاء حضارتهم الليبرالية من قيم الحرية الفردية مقابل قمعها في بلد شرق أوسطي أو بمعنى أوضح “عربي-إسلامي” مثل قطر، نجح في تنظيم حدث عالمي تشدَه إليه الأنظار.

لا شك في أحقية الألمان بالتعبير عن رأيهم، وأن تقديسهم لذلك الحق يعدّ جزءاً من عقيدتهم وديدن حياتهم، ولكن ذلك الاستعلاء في فرض القيم على الآخرين، يُظهر شكلاً جديداً من القمع، ويتوافق في مضمونه مع الطريقة الأمريكية في العولمة.

لم تستطع الولايات المتحدة الأميركية بالدبابات وطائرات الفانتوم فرض “ديمقراطيتها” في العراق مثلاً وأفغانستان، ولم تتمكن من نقل “قِيم” الحلم الأمريكي إلى بغداد وكابل، فلماذا تحاول برلين نقل “قِيمها” إلى الدوحة ومحاولة فرضها بطريقة استعراضية كتلك؟.

ثمة شعور عنصري استعلائي عند ذاك الغرب لا فرار منه، ينبع من قناعته بأن قِيمه الليبرالية المقدّسة لحرية الفرد أنى كانت، هي القيم النهائية للمجتمعات وهي نهاية التاريخ التي أقرّ صاحبها فوكوياما نفسه بأنها انحرفت عن مسارها بفعل قوى غير متوقعة على حد تعبيره، الأمر الذي اصطدم بالجهة المنظّمة للمونديال ألا وهي قطر، التي قالت للعالم أن هناك حضارات أخرى لا يتقبّل عقلها الجمعي، ذلك النوع من التغوّل الفكري والحضاري في فرض القيم على الآخرين، سواء كانت مناصرة حقوق المثليين أو سواها، بل إن حضارة تمتد لمئات السنين لن تتقبّل ما جاءت به حضارة أخرى وتحاول فرضه ورفعه كشعار وراية على أرض لا تقبل بهذه الشعارات.

يتلخّص المشهد ويتّضح أكثر في مباراة خروج المنتخب الألماني، حين رفع مشجعون مناهضون للألمان، صورة اللاعب مسعود أوزيل حامل الجنسية الألمانية بجذور تركية مسلمة، وهجوم مشجعي ألمانيا لتمزيق تلك الصور، ما يعني أن الحرية على النمط الألماني الأكثر يمينية وتطرفاً كما هو الحال اليوم، تقتصر على حرية موافقة ما يقوله الألمان، وتصبح مخالفته قمعاً وتخلّفاً، لذا فإن كأس العالم يعدّ مناسبة جيدة لمقايسة الحضارات واختبار قيمها بالفعل.

 

كاتب وصحافي – دمشق 
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى