فَنٌّ ومواقف .. مراد داغوم
كان على "أسامة الرحباني" أن يسجل موقفاً من قضية كبرى

فَنٌّ ومواقف ..
يحاول كثير من الفنانين الابتعاد عن اتخاذ أي موقف سياسي تحاشياً لتبعات الاصطفاف التي قد تنعكس على عملهم؛ قليل منهم يجدون في إظهار موقف من قضية ما ضرورة لمسيرتهم الفنية التي انطلقت من إيمان لطالما كان موحياً لهم بكثير من الأعمال التي لاقت استحساناً عند جمهورهم، بل ودعمتهم باتساع قاعدة محبي فنهم.
منذ بداية القرن العشرين، سجّل بعض الفنانين مواقف محددة من خلال أعمالهم التي كانت موجهة للشعب مباشرة. يترأسهم فنان الشعب “سيد درويش”، الذي لحَّن أعمالاً (أغنيات وأوبريتات) وطنية كانت صفعاتٍ مدوِّيةً في وجه المحتل البريطاني لمصر، وبالطبع انعكست هذه المواقف عليه مطارَدَةً من المحتل واعتقالات. لم يكن “سيد درويش” يتحذ موقفاً لمجرَّد اتخاذ موقف أو إرضاء لأحد أو لجهة، بل كان موقفه نابعاً من إيمانه الثابت بقضية عادلة. كثير من الملحنين والمطربين غنّوا لبلادهم، ولكن أن تُغني لبلدك هو أمر مختلف عن تقديم أغنية تتضَمَّن وتُعلن موقفاً من قضية تخصُّ الوطن أو المجتمع. كنت قد تطرقت لموضوع مشابه عندما تحدثت عن فنِّ “الشيخ إمام” في مقال سابق، وأوضحت أن أغنياته التي كانت موجهة للشعب وأحدثت تأثيراً في الشارع والرأي العام المصري تختلف عن أغنية وطنية غناها مثلاً عبد الحليم حافظ أو شادية أو غيرهما يتغزلون ببلادهم ويعلنون محبتهم لها. أغنيات كهذه قد تكون نابعة عن عاطفة تجاه الوطن، لكنها لم تسجل موقفاً من قضية ما.
عندما ترك الفنانون لبنان واتجهوا إلى دول العالم هرباً من الحرب الدائرة فيه، لم تشفع لهم كل أغانيهم التي تغزَّلت بحبهم للبنان، أما البعض، متمثلاً بفيروز والرحابنة الكبار، فقد أعلنوا موقفهم من خلال أغنياتهم عندما أعلنوا الفكرة التي يؤمنون بها وهي أن بلدهم (عم يخلق جديد، لبنان الكرامة والشعب العنيد) معلنين تمسكهم بالبقاء فيه مهما تتالت عليه الحروب والمخاطر.
كذلك أعلنت “جوليا بطرس” من خلال أغنية أخيها موقفها: (قولولن رح نبقى)!
أما الفنان الذي تزاحمت مواقفه من خلال أعماله تجاه كل ما يعصف بوطنه ومجتمعه فهو “زياد الرحباني”، الذي سجل مواقف عديدة من قضايا كثيرة في وطنه، من الطائفية إلى أعمال العنف الغوغائية إلى أسلوب الحياة في بيروت إلى كثير وكثير من قضايا ذلك البلد. ولم يكن زياد مدفوعاً من أحد أو من جهة، مثله مثل “سيد درويش”، يدفعه إيمانه أن قضايا مجتمعه لن يتم حلها بدون توعية وتوجيه، ولعل ختام مسرحيته “فيلم أميركي طويل” هو خير مثال على الحلول التي يتخيلها لمشاكل لبنان.
بعد عِقد من السنين على الحرب السورية التي طحنت البلاد، وبقيت سوريا مثالاً صارخاً على حرية المواقف وعدم قبول التوجيهات من الدول الكبرى أو عدم التنازل عن الثوابت والحقوق، عانت سوريا من حصار لم ترَ البلاد العربية مثله ولن ترى. ومن بين ما تعرضت له، عانى المجال الثقافي من ضيق وحصار مثله مثل بقية الأصعدة. توجهت دمشق منذ أيام نحو دعوة “دار الأوبرا” لحضور حفل “أسامة رحباني” و”هبة طوجي” نحو شباك التذاكر فأفرغته بحجز كافة الأماكن التي تتسع لها قاعة دار الأوبرا. فالاسم رحباني، يذكر السوريين بعشق الرحابنة للشام ومواقفهم منها وحفلاتهم التي وضعوا فيها الشام في قلوبهم.كان على “أسامة الرحباني” أن يسجل موقفاً من قضية كبرى، فلم يجد غير الحرب الروسية الأوكرانية ليقوم بإلغاء الحفل قبل يومين فقط من حدوثه وبعد نفاذ التذاكر، وبعد توق أهل الشام لحضور حفل كهذا وثقة بآل الرحباتي. فاضطرت إدارة الدار أن تعلن استعدادها لإعادة المبالغ لأصحابها في موقف هو الأعز في تاريخها. الإعلان عن الموقف جاء على لسان “هبة طوجي” لكن “أسامة” لم يعلق علناً بنفي أو تأكيد!
أما بخصوص المتأثرين بهذا الموقف فهم مواطنون سوريون ذنبهم الوحيد أنهم وثقوا باسم “الرحباني” فحصلوا على عقوبة بدلاً من حكومات دول كبرى لست أدري إن كان الحفل فيها ترى هل كان الفنانان المذكوران سينسحبان قبل الحفل بأيام معدودة؟وبأي حال، أنا متأكد أن أغلبية السوريين يتمنون للسيد أسامة أن يحصل على المقابل الذي يعوضه ثقة ومحبة أهل الشام للفن الرحباني، وشخصياً، أنا أتمنى لأهل الشام أن يتوقفوا عن رؤية خيال السيدة العظيمة “فيروز” في أسماء أخرى لمعت بعد إصدار ألحان غربية بترجمة سريعة، وأن يتأكدوا أن محبة الرحابنة الكبار لسوريا لم ترتبط يوماً بدراسة المواقف الدولية من دمشق.
*مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا