
وصلت للمقهى قبله .. الموسيقى الكلاسيكية متفشية, ونهار طويل بدأ يذبل في الخارج ..
لم نحدد هذا المكان لنلتقي اتفقنا على المنطقة فحسب. ولكني دخلته لأتجنب خطر الانتظار حيث الناس التي تعبر منه اسلاك شائكة، عندما تحدق بي واقفة كحفرة ويجربون علي طرقا للعبور.
سألته : كيف وجدتني؟
قال مبتسمًا : فهمت حضورك.
طلب لي كعكة تؤكل ساخنة, قبل ان يتجمد ما في قلبها.
كانت عيناه تضيء من كلمة لأخرى, وتضطرب يده بحساسية كلما وصل الحديث لذاكرته ليصرف الدخان المرتفع من شعوره، ينتبه بامتنان الى الزجاج السميك الذي يفصله عن العالم , اخبرني بسخرية ان هيئة شخص ما كافية جدا ليجد له حكاية.
ابدى تهذيبا مبالغا لمن يحضر القهوة, ومن يمسح الطاولة.. كانوا يمتثلون له بشكل خاص أيضا. يعرف الموظفون هنا من يكون هذا الرجل ذو اللحية الغامضة البنية، عيانه المائية وسواحلها الحادة والساطعة, شفتاه الرخوة و المتدلية, اصابعه النحيلة المنتظمة المنسدلة من كفه بسلاسة..
يجلس أمام أوراقه مشدودا ومرتبا, يختار لأذنه اغنية, يعاود قراءة الحدث ذاته ليجد الحبل الذي تخرج منه الصرخة.
في هذه الثيمة الفكتورية التي يملكها لم يسعني الا ان اسأل من أي غيث براءة تبلل هذا الرجل !
حيث الحروف في صوته ناعمة باستثاء الكاف التي تجيء من بعيد فتبدو كصدى للكلمة التي تحملها.
-نحن مثل كلمات مبعثرة , ربما هناك كلمة منا في شارع وواحدة في وجه و اخرى في مدى بعيد يجب ان نصله, الكلمة النادرة تلك التي تنجب مرادفاتها كلها وتستقر في شخص دون سواه من الموجودات.
كل ما يمكن فعله ان يختار مكانا يهبط فيه ويعيد التفكير في صدفة تجعل اليوم ملائما لينتظم سطر ما .. فيبتسم مولودا ليتمه حين لن يذكر الرحم.
حقيبته دائما في زاوية قريبة من المغادرة , ينام فيها كل ما يحتاجه اذا بدأت اليقظة.. مثل سلحفاة تحمل على ظهرها مكانها , لا يقلقه البحث عن منزل في أي تيه.
– الحياة ليست مزاجية , بل خجولة!
أخبرني مرة , مثل ان تسقي في الدار نبتة ولا تفوح رائحة الامهات.
من بين كل الجديد الذي اشتراه ليتماشى مع نضوجه أخرج اوراقا قديمة ووضعها امامه: كتبت هذه القصائد لعزيز مات.
صمت لبرهة ثم اكمل محدقا لتآكل النص في أوراقه وروحه في الايام.
– في الذكريات الجديدة , هناك الكثير من الاصدقاء القدامى.
قرأ قصيدته لتحتدم الفكرة , ومن عيوني بكى دمعة تحمل اسمه.
كتب له اكثر من قصيدة للعيش، ولكن موته كان القافية الوحيدة الملائمة
– لماذا … لا تقتلنا ابدا فكرة النسيان ؟ تنتهي القصة مرار لأننا لم نعرف ابدا كيف نبدأها , فنكبر بعدوانية مثل طفل يخبئ سرا..
من قصيدة واحدة كشفنا الاوراق , وتهدج الكتف مرهقا.. لم نكن ابدا في الحسبان مثل ظهيرة باردة. اقتبسنا من بعضنا احساسا شاردا عن الحجارة التي تنتظرنا على العشاء.
مشينا شارعا طويلا خائفين ان تخطفنا مسافته , وقفنا عند المفترق حيث نور متعب يتدلى على الرصيف وعصافير تحلق خفية هاربة من تهمة الصباح.
خطوت قليلا نحو وجهتي الخالية منه ثم استدرت بتثاقل , لفحه الهواء القادم مني فأستدار ليتأكد من سلامة ما تركه للخطر.. تنفست بعمق وقلت له:
أتمنى أن اعانق جميع الشعراء.
تكاثر في وجهه تعبيرًا آمنًا وهمس:
-يكفي أن تعانقيني.
.
.
*كاتبة من العراق
– لمتابعتنا على فيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews