في المشهد الثقافي: فصام، وأبعد من ظاهرة.. أحمد علي هلال

|| Midline-news || – الوسط …
“لسنا من جنس الملائكة، لكننا نكتب”
لطالما جهر غير كاتب وأديب بأنه ليس من الضرورة أن تشبهه الكتابة وما يصدر عنه هو محض خيال قد يشبه الواقع في جزئية منه لكنه أبداً لا يشبه من كتبه فتلك محض شبهة. وعلى ذلك كيف لنا أن نحدد في مشهدنا الثقافي وفي حقل الكتابة بأنواعها المختلفة علاقة الكاتب بما يكتب، لا سيما وأن ثمة من لا يستطيع الفصل بين سلوك الكاتب وكتابته، وفي ذلك الكثير من الصواب لكن أن تنفصل الكتابة عن صاحبها فتلك مسألة محيرة، ولها جذور ضاربة في أعماق الثقافة، وثقافتنا العربية ليست استثناءاً بل وجدت هذه الظاهرة في الثقافات الأخرى، فمبراجعة أسماء في الذاكرة الثقافية الروائية والشعرية سنجد دالّات ذلك «الانفصال» حد الجنون، وأكثر من ذلك حدَّ التشكيك بالمنجز ومعه يستقيم القول أن يكتب المرء ما يشبهه تلك مثالية بعينها ونزوع إلى الكمال ليس إلا.
وبطبيعة الحال الأمثلة في فضائنا الثقافي العربي لا تعد ولا تحصى، وذلك يعود لحساسية الفكرة وتبديات السلوك ومفارقات هذا التبدي على المستوى الأخلاقي والمعرفي، ومدى ما يثير من سجالات مثيرة تنطوي على مغامرات تعيد تأويل الكتابة غير مرة، ذلك أن الكتابة بذاتها هي مثال يسعى الكتّاب بضروب كتاباتهم إلى مقاربته والسعي للوصول إليه، رغم تناقضات حيواتهم، ولعل التناقض سيصبح ثيمة، نستبطن من خلالها سمات جديدة أو مختلفة لطبيعة المكتوب، لكن أن يصبح التناقض هائلاً فذلك ما يشي بالمفارقة الكبرى التي تعيشها الأوساط الثقافية وتترجم قلقها من تلك المفارقة بمواقف واتجاهات من ذلك الكاتب أو المبدع، إلى الحد الذي يجعل من هذا الفصام ظاهرة تستحق تعدد التأويل لا أحاديته، نظراً لطبيعة كل كتابة وخصوصيتها، دون أن يغيب مثال شاخص في هذا السياق، هي حياة الكاتب الفرنسي “جان جينيه” صاحب “أسير عاشق” وبالمقابل الكاتب العربي محمد شكري صاحب “الخبز الحافي” وهذا ما يستدعي بدوره حديثاً عن السيرة الذاتية، أو الميثاق الأوتوبيوغرافي وبما ينطوي ذلك على مفارقات إضافية سنجد واحداً من أعظم النقاد في القرن العشرين وهو “رولان بارت”، الذي اعتبره المؤلف «جون ستروك»: «منشط لا مثيل له للذهن الأدبي، ويبلغ من الجرأة في صياغة المبادئ الجديدة لفهم الأدب ما يبلغه من الإثارة في طرح المبادئ القديمة»، فبارت حسب ستروك يرى بأن السيرة نوع أدبي كريه لأنها تمثل وحدة مزيفة لموضوعها… إنها نصب تذكاري زائف لشخص حي، وما يجهر به بارت هو أن السيرة لا تمثل الحياة تمثيلاً صادقاً وذلك لأسباب تتعلق بفكرة بارت نفسه، أن الجوهر لا يُكتب والشخص على قيد الحياة، وبنهايته يصبح ما يكتبه جوهرياً لانفصاله عن موضوعه، إذن كيف نستطيع القول بأن السيرة الذاتية ستمثل تمثيلاً صادقاً عن حياة الأديب أو الكاتب أو غير ذلك، تماماً كما هي سيرة النص الإبداعي الذي يكتبه المؤلفون، إذ إن الصدق هنا هو صدق بالإمكان وليس بالضرورة، صدق فني لا يستدعي المطابقة التامة لما يكتبه الكاتب، لأن كتابته هي أشبه بنشيد الخلاص وبنشدان القيم الكبرى أو العليا، وحتى إذا وقع هذا «الفصام» أي ما بين السلوك والكتابة فعلينا أن نتبين الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وبالتالي ستصبح القيمة الأخلاقية قيمة مطلقة يسعى لها الكاتب بشخصياته المتعددة في عمله الأدبي الروائي مثلاً، وبتعدد شخصياته التي تحمل هذا الصراع وبأبعاد درامية بعينها.
حقاً إن الصدق بنسبيته هو مثار نقاش وتحدي، لأن الاكتمال هنا سيشي بشخصية منجزة لا بشخصية قلقة، تتوسل بالإبداع مواساة هذا القلق الذي قد يصل في أجزاء منه إلى أبعاد مرضية تعصف بالجنس الإبداعي وتضع أمام المتلقي حياة الكاتب دفعة واحدة، إما إعجاباً أو تهكماً.
*كاتب وناقد- سورية