إضاءاتالعناوين الرئيسية

فن التوقيع في التراث العربي.. فادي سهو

|| Midline-news || – الوسط …

.

جاء في مادّة (و  ق ع ) من معجم مختار الصحاح لصاحبه الإمام محمّد بن أبي بكر الرازي ( توفّي بعد 666 هـ).  (الوَقْعَة) صدمة الحرب. و(الواقِعَة) القيامة. ومواقِع الغيث مساقطه. و(الوقيعة) في الناس الغيبة. ووقع الشيء يقعُ وقوعًا سقطَ، وقع في النّاس وقيعة أي اغتابهم وهو رجل (وقّاع) و(وقّاعة) بالتشديد فيهما أي يغتاب النّاسَ. و(التوقيع) ما يُوقّع في الكتاب.

انتشرت الفنون الأدبية القديمة كالشعر والخطابة والحكم والأمثال، ولم تكن الكتابة مشهورة عصرئذٍ لذلك لم يكن فنّ الرسائل يحظى بأهمية إلّا بعد ظهور الرسالة المحمدية، عندما بدأ النبي محمد عليه السلام بتوجيه الرسائل إلى قياصرة الروم وأكاسرة الفرس. وكان الرسول يشجّع على تعلّم القراءة والكتابة، لهذا بدت المناسفة جليّة بين الكتّاب والشعراء والخطباء.

وكانت رسائل عصر صدر الإسلام تبدأ بالبسملة، ثمّ تأتي العبارات الأخرى، مثل: هذا كتاب من محمد رسول الله، أمّا إذا كانت موجهة إلى غير المسلمين فتبدأ بقوله: السلام على من اتبع الهدى، ثمّ تأتي التحميدات، مثل، فإنّي أحمد الله، وقد يرد فيها التشهد أو يكتفى بعبارة أمّا بعد.  وشهد فنّ الكتابة طفرة في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عندما تولّى مولاه سالم رئاسة ديوان الرسائل في عهده، وفي عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية الذي تولى أمر ديوانه عبد الحميد بن يحيى الكاتب، فقد عرف الأخير ببراعته وإتقانه، حتى قيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد.

يرى جرجي زيدان أنّ لكل عصر إمام في إنشاء المراسلات، كعبد الحميد وابن المقفع في العصر العباسي الأوّل، والجاحظ في العصر الثاني، وابن العميد في الثالث، وغيرهم.
ومن أنواع الرسائل في ذلك العصر: الرسائل الديوانية، والرسائل الإخوانية، والرسائل الاجتماعية، والرسائل الوعظية، والرسائل التعليمية. وكانت معظم الرسائل تختم بلفظ “السلام”، أو “السلام ورحمة الله وبركاته”.

إنّ ازدهار الكتابة أسهم في نشوء فنّ التوقيعات، والتوقيع عبارة وجيزة بليغة موجزة مقنعة، يكتبها الخليفة أو الوزير على ما يرد إليه من رسائل تتضمن قضية أو مسألة أو شكوى أو طلب. والتوقيع قد يكون آية قرآنية، أو حديثا نبويا، أو بيتا من الشعر، أو حكمة.

ومن أبرز المصادر التراثية التي عنيت بهذا الفن كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي، وكتاب (خاص الخاص) لأبي منصور الثعالبي.
ومن نماذج التوقيعات: كتب عامل إرمينية إلى الخليفة العباسي المهدي يشكو إليه سوء طاعة الرعية، فوقّع المهدي بقوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
ووقّع أبو جعفر إلى صاحب مصر حين كتب، يذكر نقصان النيل: طهّر عسكرك من الفساد، يعطيك النيل القياد.
ووقّع هارون الرشيد في نكبة جعفر بن يحيى: أنبتته الطاعة وحصدته المعصية.

أمّا علم النفس فيعتبر في بعض دراساته أنّ شكل توقيعك يفسّر شيئا من شخصيتك، فالتوقيع بالاسم الأول يعني أنّك تملك ذاكرة جميلة لطفولتك، والتوقيع المائل المنحدر إلى الأسفل يعني أنك إنسان حذر وتخشى المخاطر، والتوقيع بالأحرف الأولى من اسمك الكامل يشير إلى غموض شخصيتك، وأمّا التوقيع بالحروف الكبيرة فيشير إلى ثقتك بنفسك، وأمّا توقيعك نحو اليمين فيدل على شخصيتك المستقلة، وعدم إمالة التوقيع يعني أنّك شخصية متواضعة، والمثير للدهشة رؤية التوقيع الذي يصعب علينا فهمه فهو علامة على سرعة البديهة والذكاء الحاد.. إلخ

وفي الختام يمكننا الجزم بأنّ فنّ التوقيع لم يأخذ حقّه من الدراسات الأدبية الجادّة، لا سيّما أنّ التوقيعات ضاعت وتفرّقت في كتب التاريخ والتراث، واقتصر النقّاد والدراسون على ذكرها، ودراستها لغويّا، بدون التركيز –غالبًا- على مضامينها الفكرية والفلسفية والإصلاحية المرتبطة بثقافة كلّ عصر.
.

*روائي وأكاديمي سوري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى