إضاءاتالعناوين الرئيسية

عن تاريخ المسرح (1).. مريم ميرزاده

|| Midline-news || – الوسط …

.
“الدنيا مسرح كبير، وإنّ كل الرجال والنساء ما هم إلا لاعبين على هذا المسرح”.
*وليام شكسبير
هكذا كان المسرح مذ تأسّسَ عند الإغريق والرومان والفرس، آخذاً في الانتشار، مفتعِلاً كماً من الإثارة والدهشة تجاه هذه المساحة المتناسقة بمدرجاتها وستائرها وسقفها وأحياناً فضائها المفتوح على السماء، من أجل عرضِ فكرةٍ وتسليط الضوء عليها.. مسهِماً في زيادة الوعي العام حولها، أو لتضخيمِ مشكلةٍ لا تستطيعُ سبلُ التعبيرِ الصريحة والفنون الأخرى التعبير عنها بما يوفّرُ الحدودَ السليمةَ والسلميّةَ بين المجتمعات والسلطات السياسية والدينية.
تارةً ملهاة، تارةً مأساة، تراجيديا أو كوميديا أو عرضاً لملحمةٍ شعرية، لطالما كان المسرحُ من أقوى أشكال الفنون التعبيرية التي تتوالمُ فيها شتى عناصر الإبداع كتابةً وشعراً وموسيقى وتمثيلاً وإخراجاً.
يلتقي في صالةِ المسرحِ هواةُ القصيدة والرواية والملحمة والتمثيل والرقص المسرحي والتاريخ واللغات والرسم والنحت والتصوير والقصص على أنواعها الأدبية. فيتمخّضُ هذا الملتقى الثقافي بامتياز، عن حدَثٍ فنّيٍ كبير، فيه تبادلٌ متعدد الأطراف للثقافات والرؤى المختلفة لزوايا الفنون المعروضة كافةً. يقولُ أرسطو إن لدى الناس منذ الطفولة غريزة التشخيص ومن هذه الناحية يختلف الإنسان عن الحيوان في أنه أكثر قدرة على المحاكاة وأنه يتعلم دروسه عن طريق تشخيص الأشياء.
إن للإنسان غريزة التمثيل منذ الصغر، إن المتعة أواللذة التي نحصل عليها من هذه العملية هي تحول الحياة إلى مسرح ومن هنا ينبع المسرح… من أصل الإنسان… من رغبته الفطريّة في التّجسيد… من خياله الواسع الذي هو أصل الحياة… من الحياة نفسها.
أرسطو الذي يتأمّلُ وجهَ هوميروس في زيتيّةِ رامبرانت الشهير متسائلاً عن النسيج الشعري الذي تفرّد باكتشافه وعن حقيقة الإلياذة والأوديسة. ألم تكن “مأساة الحلّاج” أقوى تجسيدٍ في زمانه لدور المسرح في صياغة الرأي العام وصقل الثقافة وبلورة الأفكار عبر استعراضٍ شعريٍّ للتاريخ؟
وإذا كان التاريخُ مادةً صلبةً لا يستسيغها كثيرون، إلا أنّ الشعرَ والموسيقى والصورة الممثلة لتراجيديا حقيقية حدثت في ذاتِ يوم، تجعل من التاريخ موضوعاً جذاباً يقدّمُ للمتلقي بأفضل الطرق وأكثرها إبداعاً. ربما بدأت المسرحية على هيئة الشعر أولاً. حيث بدأ أحمد شوقي بكتابة المسرحية الشعرية، وكان صلاح عبد الصبور من رواد المسرحية الشعرية العربية، حيث كان ذلك بعد مرحلة الشعر الجديد الحر، الذي عاصرته به نازك الملائكة، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. ومن بين مسرحياته الشعرية الخمس، اشتهرت لعبد الصبور “مأساة الحلاج”، أشهر أعماله.
لا شيء يؤدي إلى انحطاط المسرح مثلما تفعل ممارسات قمع الحريات، أو محاولات السيطرة عليه أو توجيهه كما ترغبُ السياسات والأيديولوجيات وكما يشاءُ المستأثرونَ بالرأي من أصحاب السلطة والمنصب. أو كما ترغب التياراتُ والأحزابُ في جماعةٍ ما، أو كما يشاءُ مخرجٌ متملّق. المسرح الذي حاربته الكنيسةُ خلال القرون الوسطى في الإمبراطورية الرومانية، بذريعةِ ارتباطه التاريخي بالأوهام الشعبية والطقوس الخرافية وأحياناً الحفلات الماجنة التي يتم عرضها وتداولها بين الناس، عادَ محطَّ اهتمام رجال الكنيسة بُعَيدَ سقوط الإمبراطورية الرومانية.
هذه المرة من أجلِ إعلاء حضور الكنيسة بين الناس. صار المسرحُ في هذه المرحلةِ منبراً لإحقاق سلطة الدين وتلقين الدلالات المستمدة من الكتاب المقدّس وممارسات الأعياد الدينية لمجموعةٍ من العوام الجاهزين للتلقّي. كان المسرح هنا، كما في كل حالاته، مصدراً آسراً للمعرفة، بفعل عاملِ التشخيص والتصوير المقرون بالموسيقى. فكيف إذا كان المؤدي من ذاتِ طاقم الكهنوت، والمسرحُ ذاتَ حرَمِ الكنيسة نفسها. الدور الأشهر تمثيلياً في مرحلة ازدهار المسرح هذه، كان آلام صلب المسيح، ثم مسرحيات الإصلاح البروتستانتي بعد ذلك، والمعارضة الكاثوليكية لحركة الإصلاح. ثم كانت للمسرحِ خلال القرن الثالث عشر، حصّتُه من النهضة الثقافية التي طرأت على أوروبا الغربية بعَيدَ الحروب التي خاضتها مع الشعوب الشرقية والشمالية وما حملته من غنىً ثقافي جديدٍ نوعياً لا سيما من الشرق البيزنطي الإسلامي. حتى أخذ التبادل الثقافي والفني بين جاليات الفنانين البيزنطيين والغرب يزدهر وتزدهر معه الأدوات والعناصر. وصولاً إلى أن تداخلت في النقش الروماني القديم، فسيفساء البندقية، والعمارة السورية والأناضولية والفارسية لاحقاً. لعب الدّير في هذه الحقبة، الدور البارز في الحفاظ على الفنون والنقوش واحتضانها، رغم أنّه يميل بطبعه إلى حفظ الموروث وليس يوفّر الميدان المطلوب للخَلقِ والإبتكار أو التجدّد. ولكن أين المسرح اليوم؟ أسألُ نفسي وأنا أبحثُ عمّا يمكنني أن أجده خلف الستارة من ألغازٍ تثيرُ فيّ بعضاً من دهشةِ العرض الأخير الذي حصلتُ عليه لشكسبير. ثم يبعثُ فيّ الخيبة كلما شخصَ أمامي قتالُ عطَيل المغربي وكاسيو البندقي حول ديدمونة. وكيف أننا لا زلنا نحصل على جرعةٍ من الدهشة كلما حضرنا عرضاً لتلك القصص، دون أن نسعى لكتابة ما يشبهها تمثيلياً. أقولُ هل تنقصنا الروايات والقصص؟ أم أننا اكتفينا بها قصصاً وروايات.
.

*روائية وكاتبة إيرانية- لبنان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى