إضاءاتالعناوين الرئيسية

عن الذات الشاعرة .. إسماعيل حيدر

 || Midline-news || – الوسط …

 

لا توصيف محدداً للشعر.
الكلام الجميل لا يعني قصيدة جيدة، والشعر الجيد ليس بالضرورة أن يكون جميلاً في شكل مفرداته ومحتواها.
لا ينبتُ الشعرُ، فقط، في أرضٍ مفروشةٍ بالزهور، ولا ينزلُ وحيُهُ من فضاء سماؤها زرقاء، ولا يصعدُ من بحرٍ ساكنٍ بلا مدٍّ وجزرٍ وأمواج..
يأتي الشعرُ أصلاً، من العزلةِ والوحدةِ، والثورة المكبوتة، ودروب الحواري الضيقة، وخيباتِ النفسِ من ذاتِها.
الشعرُ سؤالٌ وجوديٌّ، ولا إجابةَ عليه في كتبِ الرياضيات والفيزياء والعلوم.. لكنه ربما يكمن في تناغم الكيمياء بين العناصر.
ينبثق الشعر من شعور إنساني، بل يتسع مداه ليشمل الكائنات الحية وعناصر الطبيعة الجامدة، كل شيء من حولنا يمكن أن ينطوي في حركته وسكونه على دلالات ومعانٍ معبرة.. الولادة والحياة والموت مفردات تختزل قصيدة الكون.
كأن لا تُرى بيوت القصيدة إلاّ في محيط الظلمة، فإذا ما شوهدت على التمام أضاءت ما حولها، فإذا هي هكذا: لا تُسمِعُكَ نفسها إلاّ إذا وجدتها.. ولئن وجدتها أضحت كوميض ضوءٍ ينطلق من خلف ساتر حريري أبيض.
وإن أنت انصرفتَ بكُلِّيتِكَ عما ليس من عالمها الخرافي، صرت كشيء غير ذي بال، فلسوف يدركك السأم.
وإذ تستعيد ما أنت فيه، ورحت تسبح في فضائها الرحب أدركت الولادة، فأدركت شهوة اللغة، فكنت أنت لا سواك بها، بالكلمات، وكنت الوالد والولادة والولد.
في رؤيته للشعر، يقول فريدريك نيتشه: “من أين جاء الشعر؟ إيقاعية الكلام هذه، التي تغمّضه عوض أن تسهّل تواصله، والتي لم تكن في أي مكان في الأرض، أقل انتشاراً، ولا تكف عن الانتشاركإهانة لكل منفعة.. إن هذه اللاعقلانية الجميلة والمتوحشة للشعر لتنقضكم، أنتم النفعيون، فإرادة التحرر من النافع بالضبط هو ما سما بالانسان، هو ما ألهمه الأخلاقيات والفن….الشعر ، هذا العنف الذي يحدد نظام ذرّات الجملة كلها، الذي يطلب اختيار الكلمات ويلوّن الأفكار بألوان جديدة ويجعلها أكثر غموضاً أكثر غرابة”.
إذاً، سرُّ الشعر، هذا الكائن المتمرّد، أنه غير قابلٍ للتقليد والبيعِ والشراءِ. ومبعث آلامه الفقدان والخسارات والنهايات المحتومة.
لا شيء يوازي حرقة الكون على رحيل الشعراء، فالمرء يحس بشيء من عدم توازن العناصر على الأرض، وفي الكواكب والمجرات، بينما نلمح على بتلات الورود دموعاً كدموع الإنسان.

يرحل الشعراء فيتركون عبارات ملقاة على الطريق، وألماً في قلوب المحبين، كأنما الخسارة تزداد قسوة في زمن الخوف والضياع والتفكك، لكأن الراحلين لو استمروا على قيد الحياة، كانوا ليخففوا بكلماتهم وصورهم من وطأة أحزانهم وأحزاننا.
هكذا عبر الشاعر شوقي بزيع عن الرحيل الجلل، في قصيدة “الشاعر” إذ ختمها بالقول:
“…الناس نيامٌ فإذا الشاعر مات انتبهوا”.
يشعر الناس بهذا الحضور السامي للشاعر، وهو يغوص في أحاسيس الكون، ناساً ونجوماً وحجراً وأشجاراً، ويتتبعون خطاه، وهو يناجي المرأة، أمّاً وحبيبة، وفي ظنهم أن ما يعبر عنه هو لسان حالهم الغارق في صمت وحيرة.
في رثائه للشاعر محمود درويش، كتب الشاعر عباس بيضون:
“كان محمود درويش يدرك أن الشعر غريب في العالم ولا مجد له ولا سلطان ولا عرش. اختار درويش الشعر وكشاعر أعطى لفلسطين معنى آخر، جعلها قصيدة غريبة في العالم ومنفى بلا نهاية وبلاداً سائحة وسراباً وحلماً من تراب.. غاب الرجل، بقيت القصيدة، وبقي الشاعر”.
يسرق الشاعر الوقت، أكثر من بقية الناس، لشعوره أن كل لحظة في الحياة هي مشروع قصيدة، لذا تبدو الكلمات في سباق مع أخواتها، للوصول إلى منتهى المعنى.
فرح الشاعر وحزنه مدوّيان، مثل رحيله تماماً.

* كاتب وصحافي من لبنان

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى