إضاءاتالعناوين الرئيسية

عاصي الرحباني، القبضاي أبو أحمد … بقلم : مراد داغوم

في بلاد العرب، وفي ستينات القرن الماضي، كانت القضية الأولى هي الفلسطينية، التي تصدَّرت الأصعدة السياسية والاجتماعية والفنية.
وبالرغم من أن الرحبانيان كرّسا العديد من أعمالهما الغنائية لهذه القضية وكانت كلها من المستوى الرفيع الذي يليق بإسميهما، إلا أن ذلك لم يرسل قضية أقدم منها إلى طيات النسيان، فخصصا لها أعمالاً مسرحية كاملة، ثم توجوها بفيلم سينمائي غاية في الروعة.

لعل الروايات التي كانا يسمعانها من والديهما وكبار السن عن الظلم العثماني الذي طال بلاد الشام حفرت في ذهنيهما ما دعاهما إلى تذكير الناس بفظائع ارتكبها جزارو السلطنة في لبنان وسوريا. قال “منصور الرحباني” للصحفي “هنري زغيب” في إحدى المقابلات عن أبيه أن جداهما هاجرا إلى مصر إبان موجة الهجرة اللبنانية إثر أحداث 1860 هرباً من جور العثمانيين، ولد في طنطا ويتذكر أن ولادته كانت في العام الذي وقعت فيه ثورة عرابي باشا 1882.

ورد أيضاَ في سيرة الأخوين أن والدهما (حنا) كان محكوماً بالإعدام، لكنه تمكن من الفرار إلى أنطلياس. عندما تم عرضها عام 1966، اعتمدت مسرحية الرحابنة (أيام فخر الدين) قصة “عطر الليل” (فيروز) التي يقاتل والدها مع جيش الأمير فخر الدين ثم يستشهد، كواجهة يعرضان من خلالها الأحداث الحقيقية التي تعرَّض لها فخر الدين سنة 1618، كحقد الباب العالي عليه بسبب النهضة الاقتصادية التي رفعت لبنان إلى مراتب علياـ وكخيانة ممن كان يعتبرهم كأولاده.

بعد ذلك بسنة واحدة، 1967 قام “نادر الأتاسي” بإنتاج أضخم فيلم درامي حربي آنذاك وأخرجه “هنري بركات”، فجاء الفيلم تحفة فنية رائعة الجمال بكل المقاييس، في الإخراج والتمثيل والقصة والسيناريو والموسيقا.الفيلم هو “سفر برلك”، الذي يعتبر من الستاندرات القياسية للسينما العربية. وكالمسرحية السابقة، اعتمد الفيلم قصة حب لشابين خطيبين هما “عدلة (فيروز)” و”عبدو (إحسان صادق)” لتصوير الواقع الرهيب الذي كان يفرضه العثمانيون على أهالي لبنان وسوريا. في 24 نيسان/أبريل 1915، صدر المرسوم السلطاني المعروف باسم (السفر برلك)، والقاضي بسوق الرجال من سن 16 إلى سن 40 في جميع أراضي السلطنة للمشاركة في الحرب التي يشنها البريطانيون والفرنسيون والروس على الامبراطورية العثمانية بسبب دخولها الحرب إلى جانب ألمانيا. يقبض الدرك العثماني على “عبدو” أثناء سفره لشراء خاتم الخطبة مع صديقه ويأخذوهما للعمل بالسخرة المجانية. يحاول عبدو وصديقه الهرب لكن صديقه يموت برصاصة دركي تركي، ويتم زج “عبدو” في السجن تمهيداً لسوقه مع السفر “برلك”.

تتالت أحداث الفيلم التي تتسم بالتشويق والإثارة، والتي سأتركها لكم لمشاهدة الفيلم بدون منغصات، وأكتفي بذكر ما كان له أثر بالغ في نفسي من التفاصيل المتفرقة في هذا العمل. أكثر ما طربت له هو إدراج شعور اللبنانيين نحو التركي ضمن سياقٍ مُغنى، وهو نوع من الزجل يسبق أغنية فيروز (يا أهل الدار)، حيث يتبادل “القوّالون” مَغنى الأبيات التالية: طلّي يا حلوة طلّي – يا غلّة بسنة الِقلّة جاي من الجرد الحسون- يقطف و يعبي السلة كَنِّك طامع بالزيتون – غصونه عم تبكي ع غصون شو رح تقطف يا حسون – والأعدا سرقوا الغلّة لا بدنا كيف ولا عراس – ولا يحكوا ولا يقولوا الناس مانّوش راح بيروق الكاس – غير ما يفل العثمللي بكره بيطلع عنا الفل – وبترجع ليالي تهل و العثمللي بدو يفل – وتطلع براسه الفلّة شدّني كثيراً أداء الفنان “عبدالله الحمصي” في دور “أسعد” لدرجة أنني وددت تقبيل جبينه من شاشة كمبيوتري. أبدع هذا الفنان في تصوير ابن الريف اللبناني طيب القلب، تماماً كدوره الرائع في فيلم “بنت الحارس”.

لفتني أيضاَ حضور مميز جداَ للسيدة “نزهة يونس” بدور (هند) وللمخرج “بيرج فازليان” بدور الضابط التركي “رفعت بيك”. أخرج “بيرج” لفيروز مسرحيات (صح النوم، المحطة، أيام فخر الدين، هالة والملك، الشخص، جبال الصوان، يعيش يعيش، ناطورة المفاتيح، لولو، ميس الريم). كما أخرج مسرحية “بياع الخواتم” للمسرح بينما كان مساعد مخرج للفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين. المميز في هذا الفيلم أيضاً هو أن “عاصي الرحباني” كان واحداً من أبطاله، فقد قام بدور المجاهد “أبو أحمد” القبضاي، واستطاع بمقدرته الفائقة خطف النجومية من القدير “نصري شمس الدين” الذي قام بدور المختار. ولكن البطولة المطلقة كانت من نصيب “فيروز” التي تعطيها كاميرا الفيلم ما لا يمكننا مشاهدته من خلال المسرح أو أنواع الاستماع، فيظهر لنا “هنري بركات” وجه فيروز خلال لقطات “كلوز” بانطباعات طبيعية جداً لكأنها ساوت مقدرة التمثيل مع مقدرتها على الغناء. لاقى الفيلم محاربة شديدة من الدولة التركية التي حاولت منع عرضه في العديد من الدول وقد نجحت في بعضها. تم عرض الفيلم في “القاهرة” باسمه الأصلي: (المنفى)، وقد تم إيقاف عرضه تلبية لطلب السفير التركي، ثم أعيد العرض مرة ثانية. وما زالت الدولة التركية حتى اليوم تلاحق عرض هذا الفيلم حتى على مواقع الانترنت. يمكن للمشاهدمثلاً أن يعثر على فيلمي فيروز (بياع الخواتم وبنت الحارس) بجودة عالية، 720 أو أكثر فيكثير من مواقع الأفلام على النت، إلا أن فيلم “سفر برلك” متوفر بجودة متدنية (360)، لكنه كامل، وضعت رابطه أدناه. كلما أعدت مشاهدة هذا الفيلم أتساءل: لماذا لا تقوم الفضائيات السورية واللبنانية بعرضه بشكل دوري؟ علماً أنه متوفر في مكتباتهما بجودة عالية!
.

*(مراد داغوم – مؤلف وموزع وناقد موسيقي – سوريا)

رابط فيلم “سفر برلك”:
https://www.youtube.com/watch?v=aaIWHBTVWsI

تابعونا على صفحة الفيسبوك: https://www.facebook.com/alwasatmidlinenews.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى