شوقي بغدادي فارس يترجل.. عن صهوة القصيدة

شوقي بغدادي فارس يترجل..عن صهوة القصيدة..تاركًا أوراقه وابداعاته وإرثه الشعري والأدبي .. وحيزاً شغله حتى بلغ من العمر خمسة وتسعين من العطاء والاستمرار حيث لم يستطع الزمن ولا العمر أن ينهك قصيدته..
شوقي بغدادي شاعر عرفه المشهد الثقافي السوري منذ ما يقارب السبعين عاما، وهو إحدى العلامات الفارقة التي شكلت طيف هذا المشهد عبر سنوات طوال، عاصر الحركة الأدبية السورية منذ فجر الاستقلال إلى يوم رحيله أمس الأحد فاعلا فيها.. حيث كان ذاكرة فكرية وسياسية وثقافية حاضرة لكل من يحتاجها.
و شوقي بغدادي هو أيضاً أحد الأدباء القلائل الذين لم يستطع الزمن ولا العمر أن يهزمهم في ميدان العطاء والإبداع ، بل زادها أصالة وخبرة، ومن الذين راهنوا على الشعر كمرآة حقيقية لأرواحنا، وطريق إجباري للخلاص.
أحد الذين ربوا فينا ذائقتنا الأدبية، وأحد الأدباء القلائل الذين ساهموا في بناية وعي متحرر ينحاز دائماً للإنسان ولحريته. يدله من خلال الشعر، “حصانه الخشبي الوحيد”، على ذاته وعلى وعيه لهذه الذات، وعلى اكتشافه للجمال فيه وفي كل ما حوله.
وفي صراعه مع الموت والحياة طيلة العقد الأخير كان أخر ما كتبه:
ما عساني وقد غرقتُ أقولُ
ليس ماءً هذا السوادُ الثقيلُ
أظلمتْ كلّها البحارُ وضاعت
وجهةُ الريحِ والطريقُ الطويلُ
هي شيخوختي أم الأرضُ جفّت
وانتهى عَهدُهُ الزمانُ البليلُ
ورفاقُ الطريقْ لم يبقَ منهم
غيرُ ما في النواةِ حين تسيلُ
لم يزلْ في حديقتي بعضُ عُشبٍ
وبقلبي ما لا تُسرّ العـقـولُ
أنت ميْتٌ وإن لهثتَ قليلاً
لا يبوحُ الأسرارَ إلا القليلُ
ثمّ عزفٌ كأنه الليلُ يدنو
وجلالٌ كأنـــــه الترتـيـلُ
لا تودّعْ فالشعرُ أقوى من المو
تِ وفصلٌ جادتْ لديه الفصولُ
شوقي بغدادي فارس يترجل.. عن صهوة القصيدة
وُلد بغدادي في بانياس، المدينة السورية الواقعة على ساحل المتوسط، في 26 تموز/ يوليو 1928، وتدرّج في تحصيله العلمي بين مدارس اللاذقية وطرابلس في لبنان، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي في دمشق متحصّلاً من جامعتها على إجازتين في واحدة في اللغة العربية وأُخرى في التربية عام 1951.
جاءت مساهمته الأُولى في المشهد الثقافي السوري من خلال مشاركته في تأسيس “رابطة الكتاب السوريين” عام 1951، إلى جانب ثماني شخصيات أدبية سورية بارزة هي حنا مينة وحسيب كيالي ومواهب كيالي وصلاح دهني وفاتح المدرس وليان ديراني وشحادة الخوري وسعيد حورانية، وانتسب إليها في العام 1952 كل من حسين مروة ورضوان الشهال من لبنان، وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس من مصر، وبعض الكتاب العرب، ثم تحوّل اسمها إلى “رابطة الكتاب العرب” وانتُخب شوقي بغدادي أول رئيس لها.
في عام 1954 وقّع أولى إصداراته، وهي مجموعة قصصية بعنوان “حيّنا يبصق دائماً” (سبقها عام 1952 إصدار قصصي مشترك بعنوان “درب إلى القمة”). وبعد ذلك بعام، أصدر مجموعته الشعرية الأولى “أكثر من قلب واحد” (1955). ومنذ ذلك التاريخ، سيكون واحداً من صائغي المشهد الشعري السوري وأحد وجوه بلده الثقافية.
في هذه المرحلة أصدر بغدادي ديوانين: “لكل حبّ قصة” (1962)، و”أشعار لا تحبّ” (1968).
عمل مدرساً للغة العربية وآدابها في الثانويات السورية ثم في الجزائر بعد استقلالها من فرنسا، قبل أن يعود إلى دمشق عام 1972.. وظل مرتبطا بها.. حتى أخر لحظات حياته.
أفصح بغدادي، في العقود التالية، عن مشروعه الأدبي، ومن ضمنه الشعري، إذ أصدر مجموعات شعرية عديدة بينها: “بين الوسادة والعنق” (1974)، و”ليلى بلا عشاق” (1979)، و”قصص شعرية قصيرة جداً” (1981)، و “كم كل بستان” (1982)، و”شيء يخص الروح” (1996)، و”البحث عن دمشق” (2002). إلى جانب حكايات شعرية للأطفال مثل “عصفور الجنة” (1982)، و”القمر على السطوح” (1984)، محاولاً في النقد والدراسات أيضاً: “قديم الشعر وجديده” (1986)، و”عودة الاستعمار: من الغزو الثقافي إلى حرب الخليج” (1992). كما واصل نشر المجموعات القصصية، ونشر رواية واحدة بعنوان “المسافرة” (1994).
فلسطين و شوقي بغدادي
وكما شغلته العدالة همّاً اجتماعياً وموقفاً إنسانياً وشعرياً، فإنّ الحرية عنده تلازمت وإياها، سواء في كتابته عن فلسطين ولها، إذ نقرأ من شعره: قصيدته زهرة حقول الموت:
هم وأدوا البذرة في التربة
وارتاحوا في صمت النكبة
لهم سمحوا للأرض الخصبة
أن تلفظ قشرتها الصلبة
كي تنعش قلبا مدفونا
وتفجر عينا منصبة
والآن سيشكو منتصر
أن الإكليل قضى نحبه
فالغارُ ذوى
والزرع زكا
والتائه قد ألقى دربه
لا، لست أدق على طبل
وأمثل دورا في مسرح
إني أحياها أغنيتي
وأشم دخانا في بيتي
الزهر الأسود ينفتح
وأريج من لهب يلفح
الآن فلسطين انتبهت
ورمت سكينا لا تجرح
يديها قبل جميع الناس
تدق على باب يفتح
فتقت الجرح فلسطين
وتدفق قلب مطعون
ويحرقه عشاق حرموا
يتحرك شعب محزون
ستكون طريقا ضيقة
وتصد هضابٌ وخزونُ
وتسيل دماء لم تسفح
وتجدُّ دموع وشؤون
ستهب الغابة ضاربة
ويكشر وحش مجنون
وتغور الأرض بمهواها
ويفور الحمأ المسنون
وتفح أفاع في قلق
ويزمجر رهبا تنين
ستكون مخاف لا تحصى
ويكون عذاب ويكون
ليكن ما فائدة الدنيا
لو نكس للأرض جبين؟
أتكون متاع لو طفحت
بقذاها صور وعيون؟
“بعد فوات الأوان”:
لم تقهر سنوات العمر الطويلة قامة شوقي بغدادي و لم تمنعه وهو في الثالثة والتسعين من إصدار ديوانه الشعري في دمشق.
و جاء في قصيدته “بعد فوات الأوان” التي منحت الديوان عنوانها: “سأعتذر الآن، بعد فوات الأوان، أنا لم أجدد حقولي، ولم أتفق والزمان، وحين عشقت النساء وكنت صغيرا، تركت حصاني ولم أك ممن يجيدون ركب الحصان، كبرت على ظهر قافلة صنعت شاعرا ورمت آخر فتخيلت عندئذ أنني حامل الصولجان.”
“كنت أزرع قمحا، وأحصد في مطلع الصيف حب الزؤان، فإذا عانقتني الصبايا، يخففن عني، شعرت بأن حصادي، مازال يكسب كل الرهان.”
وفي ديوانه الأخير “بعد فوات الأوان” يقرأ بغدادي موته في حياته، ويعرف أن من يقف مع المظلومين لا يموت:
“حلمت أمس أنني أموت/ وأن جثتي يرفعها العمال أعلى من التابوت/ قلت لهم تمهلوا لا ترفعوني عاليًا/ فأرجعوني نحو أقرب البيوت/ قولوا لهم هو الذي صاح بنا: هيا ارجعوا: ونحن لا نعرف بيته فأين نرميه إذن/ استغرب السكان حين صرت عاريًا بينهم/ فألبسوني كفنًا ممزقًا فرفضته/ وحين فتشوا عندهم لم يجدوا من الثياب ما يروق لي/ وهكذا صاحوا: مقبرة الأغراب ليست بعيدة/ امض إليها قبل أن تغلق الأبواب/ وهكذا سايرتهم وقلت في نفسي/ أفضل ما أصنعه الآن إذن/ لا بد أن أموت”.
شوقي بغدادي يترجل.. عن صهوة القصيدة
حين سأل الراحل شوقي بغدادي ما الذي دفعك للكتابة عن الفرح؟
أجاب لست متشائماً بل ضاحك منذ قديم الزمان، والقضايا الكبرى التي حملتها جعلتني أنغمس باللعبة إلى أخمص قدمي، وهذا يتطلب نوع من الجدية والرصانة، ويبعدني إلى حد ما عن الفرح الذي كان موجوداً، ومع الوقت انتبهت إلى أن شعر التفجع والكآبة غالب على الشعر العربي بشكل لا يطاق، وبعض الشعراء يعيشون حياة سعيدة، بكل أبعادها فلا تراه يكتب شعراً بوصف الفرح والسعادة، وتنبهت لهذا الموضوع، فأردت أن أرد على هذه الموجة، وعلى تيار النحيب والندب وجلد الذات بهذا الشكل، فبكيت كثيراً وشكوت كثيراً، إلى أن تنبهت لجمال الحياة التي تستحق من الكاتب أن يعيش الفرح، وكنت قد كتبت عن الحزن كثيراً وعن الكآبة أكثر وعن الموت أكثر بكثير، وآن الأوان لأكتب عن الفرح، رغم الفواجع التي تحصل، فحين فكرت بعنوان لديواني لم أجد أفضل من “ديوان الفرح”.
أين ترى موقع الكاتب بالنسبة للقضايا الكبرى الاحتلال.. المقاومة.. الحرية؟
** أي فنان أو أديب يقف أمام قضية كبرى تهدد مسيرة أمته، لا يقف متفرجاً عليها، بل لابد له من المشاركة فلا تكفي النوايا الطيبة التي لا تصنع فناً ولا أدباً، والفنان والأديب مطالبان بالمشاركة، شريطة أن يحافظ على المستوى الفني الرفيع الذي يليق باسمه وباسم الفن والأدب.
الجوائز
في حياة بغدادي العديد من الجوائز والتكريمات منها الجائزة الأولى للشعر والقصة القصيرة من مجلة النقاد الدمشقية والجائزة الأولى للأناشيد الوطنية، وجائزة اتحاد الكتاب العرب لأحسن مجموعة شعرية عام 1981 وجائزة البابطين للإبداع الشعري عام 1998 وجائزة أحمد شوقي للإبداع الشعري من اتحاد كتاب مصر عام 2021 كما كرم من قبل العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية العربية.
رحم الله شاعرنا الكبير شوقي بغدادي .
اقرأ أيضا…د. بريك هنيدي: الشاعر صوت الجوهر الإنساني، مستشرف الرؤى
الإعداد: شهناز بيشاني
صفحاتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter