سوريا والحلفاء .. معادلات الجوع والعوز .. يزيد جرجوس

لطالما كانت سياسات التجويع عبر الحصار و”العقوبات” منهجاً لعمل الولايات المتحدة في تعاملها مع الخصوم والدول غير التابعة لها، والتي تشكل تحدياً لهيمنتها على العالم وفقاً للتصورات الأميركية لمشاريع النهضة والاستقلال التنموي في مختلف دول العالم، لأن الولايات المتحدة تعتقد أنها يجب أن تسيطر على العالم وتسيره وفق مفاهيمها هي ليكون “عالماً أميركياً”. لقد عبر عن ذلك الرئيس (ليندون جونسن) في خطاب توليه الحكم بعد اغتيال كندي مستثمراً في حالة الاستنفار النفسي للأميركيين وقتها، لا بل ومحرضاً إياهم عندما قال:
“قَدَرُنا أمركة العالم .. نحن 200مليون والعالم أكثر من 4 مليارات وقد ينقضون علينا في أي لحظة لسلبنا ما نملكه”.
استُخدِم سلاح “العقوبات” والحصار بهدف تطويع و”احتواء” الدول في العراق ونيكاراغوا وإيران وسوريا وغيرها. وقد أفلحت هذه السياسات في كسر إرادة بعض الدول كما في نيكاراغوا، وفي التحضير لغزوها عسكريا بعد إنهاكها كما في العراق، حيث وصلت الحال بالمواطن وبالدولة العراقيين إلى مستوى من الوهن والضياع والعزلة التي مكنت جيوش “الحلفاء” الغربيين من احتلالها عسكرياً وتحطيم ما تبقى من هياكل المؤسسة الرسمية الوطنية فيها. لقد كتب المسؤول الأممي (هانز سبونيك) رئيس لجنة حقوق الإنسان المشرفة على برنامج “النفط مقابل الغذاء” القاسي الذي طُبِّقَ على العراق في تسعينات القرن الماضي، كتاباً –عقب استقالته طبعا- أهداه “لشباب العراق” قال فيه:
“نهاية التسعينات وصل الحال بالمواطن العراقي، نتيجة نظام العقوبات، لدرجة يستحيل عليه العيش بشرف”
هذه الماكينة المفترسة تستمر اليوم في محاولاتها المُحكَمَة للنيل من سوريا، ومن الواقعية بمكان الإقرار بأنها حققت بالغ الأثر على صعيد تدمير قدرات الدولة السورية على التحرك ومواجهة الصعوبات المعيشية الكبيرة التي يواجهها الشعب السوري على صعيدي الخدمات والاقتصاد، لا بل وهي تحاول أيضا النيل من دول كبيرة كإيران وأخرى كبرى كروسيا، فلقد قامت وتستمر بفرض المزيد من الإجراءات والتدابير لحصار هذه الدول. لقد طورت الإدراة الأميركية أيضا تدابير مبتكرة أكثر عمقاً في الجانب الاقتصادي مثل سياسة “تجفيف العملة الصعبة إقليمياً” مما استهدف عدداً من الدول الأخرى المحيطة مثلا لبنان على هوامش وضمن إجراءات حصار سوريا، وبما أنه شكل منفذاً طبيعياً واجتماعياً متبادلاً مع سوريا على صعد الاقتصاد وتأمين السلع والخدمات، فتم تجفيف السوق اللبناني من الدولار وفق ترتيبات بدأت منذ العام 2019 لم تتسبب فقط بالمزيد من ارتفاع أسعار الصرف في سوريا بطريقة كارثية، ولكن وبطبيعة الحال في لبنان الذي دخل في أتون أزمة اقتصادية خانقة أيضاً خدمة لمشروع حصار سوريا، فنقص العملة الصعبة فيه كان طريقاً لتقليل عرضها في السوق السورية، وتالياً تسبب ذلك بانخفاض كبير لأسعار الصرف للعملات الوطنية في كلا البلدين الشقيقين المتجاورين والمتشاركين في المصير بحكم التاريخ والجغرافيا.
إن الموضوعية تقتضي مِنّا القول بأن حقيقة اشتراك العديد من الدول المذكورة أعلاه بالتعرض للإجراءات الأميركية والغربية التي تهدف لتجويعها يجب أن لا تُعمي أنظارنا جميعا عن أن ما يقاسيه الشعب السوري تحديداً لا يُقاس بحال من الأحول بما تَمُرُّ به بقية الشعوب المحاصرة، فارتفاع معدل التضخم في هذا البلد أو ذاك، وانخفاض مستوى الدخل أو تراجع المعيشة هو أمر، وأن يعيش شعب كامل تقريباً بدون كهرباء ووقود تدفئة بصورة تشبه حرفياً العودة قروناً إلى الوراء مضافاً إليها الفقر والعوز، هو أمر آخر لا يُقاس بحال من الأحوال مع ما يجري في دول العالم المستهدفة عموماً من قبل المنظومة الغربية.
إنَّه من غير المقبول اليوم أن يعاني الشعب السوري من البرد والجوع مع التراجع الكبير في الخدمات العامة إضافة للغلاء المتوحش الذي لا يقضم ما يملكه السوريون فحسب ولكنه يلتهم آمالهم وفرصهم المستقبلية، ويبدو أن جهداً ما يجب أن يُبذل لتعريف الشعوب الصديقة وليس فقط الحكومات بما يعانيه الشعب السوري الشقيق والصديق لهذه الشعوب (خلافاً لمقاطع مصورة عن “الحياة الطبيعية في سوريا” والتي بدأت تفعل فعلاً عكسياً هنا)، والذي قدم لهم في معركته لإنقاذ البشرية من تغول وإعادة تجديد سيطرة الغرب على العالم لقرن آخر من الزمن، حيث وقف السوريون في المقدمة لمواجهة هذه الحرب العالمية لأسباب جيوسياسية مفهومة، فالمنظومة المعتدية الناهبة هي التي اختارت ضرب المعسكر الشرقي ابتداءً من سوريا، ولكن ذلك يجب أن لا يكون مدعاةً للتعاطف الديبلوماسي والإعلامي على رصانته فحسب، وحتى في معرض المساعدة العسكرية الكبيرة التي حصلت عليها الدولة السورية من قبل حليفيها الروسي والإيراني، يجب أن تراعي دول مثل روسيا والصين وإيران وغيرها أن ما تقدمه لسوريا جيد ولكنه غير كافٍ للحفاظ على كرامة الشعب السوري.
الحلفاء والأصدقاء يجب أن يُقَدِّموا دعماً أكبر للدولة السورية لتمكينها من تأمين المستلزمات الأساسية لحياة السوريين، على مستويات الصحة والتعليم والوقود للتدفئة والنقل والإنتاج والطاقة الكهربائية، ليس “حفاظاًً على مقومات الصمود” لأن الشعب السوري صمد وتحمل في معادلة تقول بأن الصمود أساساً هو البقاء والتحمل في مواجهة نقص المقومات أو حتى انعدامها، ولكن حفاظاً على كرامة السوريين وعلى سمعة ومستقبل العلاقات الدولية بين دول العالم الحر في الشرق والجنوب والذي وقفت سوريا ببسالة دفاعاً عن نفسها وعنه.
طبعاً من السذاجة بمكان التصور بأن المسؤولية في كل ذلك تقع “فقط على كاهل الحلفاء والأصدقاء” ولكنها بحكم الواقع والحقيقة تقع علينا نحن كشعب سوري بكل تشكلاته (السلطة والشعب) الدولة كجهاز سياسي وسلطة تنفيذية والشعب كوقود ومادة منتجة لتلك السلطة ومشكلة لها. إن التحالفات الغبية لمافيات المال وتجارة الأزمات بين رأس المال اللاوطني وبين بعض مفاصل الجهاز السياسي والتنفيذي للدولة تقف في صدارة مشهد معادلات الجوع والعوز الذي يعاني منه الشعب السوري، ولا يمكن إغفال ذلك تماماً كما لا يمكن عذر المواطن الذي لا يقوم بالمبادرة لإجراء أي تعديل أو مبادرة ولو كانت بسيطة لمواجهة أزماته المتفاقمة، ولكن القدرة على الفعل تبقى أعلى لدى من يمتلك السلطة والمال. إن الأميركيين يريدون إذلالنا لأغراض سياسية بعيدة وعميقة وعلينا نحن وعلى الحلفاء منع حدوث ذلك دفاعاً عن مستقبل البشرية، لأن لون الثور “أبيضاً كان أم أسوداً” لا يهم طالما أنه سيؤكل في النهاية.
إقرأ أيضاً .. المواجهة الأطلسية الروسية .. هل تنتهي بزوال الاتحاد الأوروبي؟.
إقرأ أيضاً .. “المجتمع المدني” .. النشأة، الغاية والوسيلة، والدور المرتجى ..
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب