أرشيف الموقع

يحدث الآن : سوريالي لا “تشكيلي”! .. بشار جرار – واشنطن

ابتلاني الله أربعاً إلا قليلاً. أربعة عقود في مهنة البحث عن المتاعب وقد سموها ضحكا على ذقوننا بصاحبة الجلالة! لم يعد عرشها السلطة الرابعة، ففي عالم اليوم صار سلطة الصحافة زئبقية تماهي السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وأحيانا تتسلط على إحداها أو عليها جميعا.

وإن كان ابتلاء الصحافة المكتوبة مما يطاق، فإن السمعية كرب والبصرية بلاء، في عالم صارت فيه “التقية السياسية” ثقافة عالمية يتساوى فيها الشرق والغرب، الشمال والجنوب، لا فرق في امتهان الكذب بين سلطوي يساري ويمينيّ، ولا بين مغتصب للسلطة باسم الفقراء أو الأتقياء أو الأولياء! من كانوا يتشدقون برفضهم “دكتاتورية البروليتاريا” صارت حربهم الباردة اليوم بقيادة دكتاتورية الليبرالية المتوحشة، فصرنا جميعا على شفير هاوية لا خلاص فيها، هذه ليست هرمجدون الذين سرقوها من الكتاب المقدس..

إقرأ أيضاً .. إحصاءات، دراساات، استطلاعااات للبيع! ..

في زمن البث على مدار الساعة، تفتقت أذهان منتجي الأخبار عن شكليات كثيراً ما تحولت إلى ضجيج وتشويش وتشتيت، عوضا عن أن تكون عنصر خدمة للخبر. راقت لنا “عواجل” الأخبار حتى أتخمت الشاشة وأثخنتها بشريط موجز للأخبار وآخر للبورصات وآخر لأحوال الطقس في العالم أو في بلاد صغيرة نسبيا أو كبيرة دونما تغير يذكر في درجات الحرارة.

قبل سنوات طوال ناديت بتخفيف هذا الزحام الذي حول شاشاتنا إلى لوحة “معجوقة” لا اتساق فيها سوى بالألوان التي لم تسلم هي الأخرى فصبغوها سياسيا وحزبيا وطائفيا أيضا! قبل أشهر أقرت عدد من الشبكات الأمريكية في مقدمتها سي إن إن، بالحاجة إلى إعادة تعريف الخبر العاجل فلا يصرف هكذا مع كل خبر وتصريح.

الإبهار لا علاقة له بالإكثار. فعندما أقول مثلا أنا أحب أسرتي، فهذا قطعاً ليس خبراً عاجلاً ولا حتى خبر! وقس على ذلك ما يصدر عن بعض “الذوات” من تصريحات يصر خدّامها على تفريغها عواجل تثير الاستهجان أكثر من الاستحسان.

إقرأ أيضاً .. إرث للبكوات!؟ .. 

لكن ما “يحدث الآن” في عالمنا وهذه العبارة من الديباجات المعتمدة الآن في كثير من المحطات التلفزيونية هو أشبه ما يكون بخبر سوريالي لا تشكيلياً! تشكيل حلف، حكومة، أو حتى اتفاق. كيف نفهم مثلا ما صدر عن إسرائيل وحزب الله ولبنان وأمريكا من تصريحات فيما يخص اتفاق كاريش-قانا؟ “هذا ليس تطبيعاً” يؤكد حسن نصر الله أمين عام الحزب، وهذا “نصر” للبنان والمقاومة. يتزامن هذا النصر مع تكرار القصف الإسرائيلي على أهداف إيران في سورية ومن ضمنها عناصر الحزب نفسه!

ما يحدث الآن في كثير من المشاهد من حولنا إقليمياً ودولياً ضرب من السوريالية، لا “تشكي” لي يا خال ولا “أشكيلك”.. نعم، لم يكن عنوان المقالة أعلاه خطأ بالنحو، وإن بدا من النظرة الأولى كذلك! ما يحدث الآن تغيير لقواعد اللعبة كلها لا مجرد تغيير لقواعد الاشتباك كما ضحكوا علينا عقوداً وقروناً!

 

*كاتب ومحلل سياسي – مدرب مع برنامج الدبلوماسية العامة في الخارجية الأميركية ..
المقال يعبر عن رأي الكاتب ..

 

عنوان الكاتب على basharjarrar : Twitter
صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى