من نيكاراغوا إلى سوريا .. سلاح التجويع الشامل .. يزيد جرجوس

في ثمانينات القرن الماضي وبعد فوز (دانييل أورتيغا) في انتخابات نظمتها حكومة ترأسها مجلس رئاسي بعد أربع سنوات من إسقاط الحكم الموالي للولايات المتحدة بانتفاضة شعبية عام 1979 في نيكاراغوا، بدأت حكومة الرئيس العتيد اليساري وقتها، تحقق قفزة تنموية واضحة، فعلى سبيل المثال شهد قطاع الصحة نهضة قضت على ظاهرة موت المواليد التي كانت البلاد تعاني منها، وقد أثنت المنظمات الدولية على ذلك.
في أعقاب تلك التحولات بدأت الولايات المتحدة تتحسس خطر انتشار المشاريع النهضوية فيما تعتبره هي “حديقة خلفية لها”، ما دفعها لإعلان العداء تجاه حكومة نيكاراغوا، واعتبارها “سرطان يجب القضاء عليه” حسب (جورج تشولز) وزير الخارجية الأميركية في حكومة ريغن. وكان من مفردات حالة العداء إضافة للتصريحات، الحصار الديبلوماسي والعقوبات ودعم تشكيل وتسليح “عصابات الكونترا”، بصورة تبدو مأولوفة وملهمة لأي سوري يحاول فهم “الربيع العربي” الذي ضرب بأمواجه العاتية دولته وأصابها في الصميم. فعصابات الكونترا تلك أسست على أراضي دول محيطة مثل بانما وجزر الهندوراس، حيث كلفت الإدارة الأميركية سفيرها هناك (جون نغروبونتي) وللإسم وحده هنا وقع مثير ليس للريبة ولكن للفهم مجددا، فرجال الولايات المتحدة الذين يقودون مشاريع الحرب والخراب تجدهم نفسهم يتنقلون من مجزرة إلى أخرى، ببساطة لأنهم مؤهلون ومحضرون للقيام بذلك، ثم إن واحدهم وعندما “يبلي بلاء حسنا” في مهمته يتم نقله لأداء مهمة أخرى أكثر دقة وحساسية، فالرجل ليس بالصدفة أنكم سمعتم اسمه براقا في فييتنام والعراق أيضا.
صُدَف المقارنة لن تتوقف هناك، فاستراتيجية “البروباكندا البيضاء” التي انتهجتها الإدارة الأميركية انطلقت من تصوير المتمردين على أنهم “مقاتلين من أجل الحرية”.. كلمات سترتطم بوعي أي عربي عاش ويلات “الربيع العربي” على وقع نفس المفردات. طبعا لم يكن هذا كل شيء، فهؤلاء المتمردون كانوا يقومون بأعمال إجرامية تم التعامي عنها في الإعلام والسياسة الغربيين، أو الزعم بأنها “انتهاكات ترتكبها الحكومة” عندما تتسرب أخبارها وصورها هنا وهناك، مما شجع تلك العصابات لارتكاب المزيد من الفظاعات كونها ضمنت الغطاء السياسي والإعلامي، فليس ثمة ما هو أفضل للمجرم من أن يحصل على ضمانة تسجيل جرائمه ضد آخرين. ركزت عصابات الكونترا اعتداءاتها على المدنيين وعلى البنية التحتية، فهي كانت مكلفة بترهيب السكان من جهة وبإنهاك الدولة من جهة أخرى، وما زلتُ أُحِسُّ بالفجيعة لتقارب كل حرف أكتبه لكم هنا حد التطابق مع ما عاشه المواطنون والدولة في سوريا.
خلال تلك السنوات العجاف التي مرت بها نيكاراغوا، ولأن التدخل الأميركي كان معلنا وصلفا على حد سواء، تمكنت الحكومة من رفع دعوى على الولايات المتحدة الأميركية لدى محكمة العدل الدولية، بسبب كل ذلك الدمار والخسائر في الأرواح والبنية التحتية التي تكبدتها الدولة، وربحت الدعوى عام 1986 حيث أدانت محكمة العدل الولايات المتحدة بتهمة “الاستخدام غير المشروع للقوة” وأكدت على “عدم قانونية التدخل في نظام الحكم في دول أخرى”، لا بل وقررت تغريم الولايات المتحدة بمبلغ تعويض لصالح دولة نيكاراغوا قيمته 17 مليار دولار.
طبعا رفضت الولايات المتحدة تنفيذ الحكم واستمرت بإجراءات الحصار ومعاقبة الشعب في نيكاراغوا إلى أن أتت ساعة الحقيقة بانهيار الاتحاد السوفييتي، حيث ضعفت حكومة الرئيس أورتيغا أمام الولايات المتحدة وقبلت بإجراء انتخابات تترشح فيها منافسة كانت محسوبة عليها ومدعومة علنيا من قبلها، حيث قادت هذه المعركة الانتخابية وأعلنت صراحة في حملتها على الحكم اليساري أن “الشعب سيدفع الثمن باستمرار الحصار الاقتصادي عليه إذا ما أعاد اختيار أورتيغا مجددا”.
هذا كان كفيلا بإضعاف فرص الرئيس وفازت منافسته (جولييتا شمورو) يومها، والتي كان أول قرار لها سحب الدعوى ضد الولايات المتحدة والتنازل عن تعويض ال17 مليار دولار، في إجراء أثبت للتاريخ حقيقة شمورو توجهها المعادي للشعب والدولة لصالح الإدارة والقرار الأميركيين.
يقول الدكتور عصام التكروري “في تلك الفترة تحولت نيكاراغوا إلى ثاني أفقر دولة بعد هاييتي في الإقليم هناك”، وكان من اللافت أن البلدين كانا تحت الهيمنة أو الوصاية الأميركية.
أعاد الرئيس أورتيغا الترشح في انتخابات 2002 وواجهته الولايات المتحدة بنفس الهجمة والتهديد باعتبار نيكاراغوا “دولة داعمة للإرهاب” في حال فوزه، مما تسبب بخسارته للسباق الانتخابي مجددا، وكانت المفارقة التي تثبت صورة الابتزاز والترهيب الدوليين، أنه في انتخابات 2006 والتي عاد أورتيغا للترشح فيها خالعا ثوبه اليساري معلنا تخليه عن العقيدة الشيوعية وانتماءه للكنيسة الكاثوليكية كتعبير صرف عن الرضوخ للإدارة والقرار الأميركي، حيث دعمت الولايات المتحدة ترشحه هذه المرة، وعاد ليفوز مجددا ليس في تلك الانتخابات فحسب ولكن في 2011 أيضا.
أورتيغا رضخ للقرار الأميركي لأسباب عديدة تتصدرها الجغرافيا، ولكنه دفع وبلاده ثمنا كبيرا لهذا الرضوخ، فالوصفة الليبرالية التي يفرضها القرار الأميركي على المنضوين تحت حزامه ورحمته، ليست سوى طريقة للإنهاك المديد. لقد تراجعت قيمة الجنيه المصري مثلا خلال العقود الثلاثة التي تلت اتفاقية كام ديفد إلى أقل من عشرها من (جنيه=2.5دولار) ثمانينات القرن الماضي إلى (دولار=25جنيه) اليوم، بخسارة تفوق 60 ضعف في بلد يعيش “حالة سلام” واستقرار ويحصل على “مساعدات أميركية سنوية” ولكنه يطبق وصفتها أيضا.
لبنان اليوم يعاني تراجعا مرعبا في قيمة عملته التي خسرت 26 ضعف خلال 4 سنوات فقط، هي عمر القرار الأميركي بالتضييق على التحويلات للبنوك اللبنانية، برغم أن لبنان محكوم بتركيبة حكومية تسمح للسفير الأميركي بالتنقل والتدخل وإبداء الرأي في كل شاردة وواردة من التعيينات وحتى انتخاب رئيس للجمهورية، كما أنها تركيبة طبقت التوجهات الأميركية بحذافيرها لجهة قطع العلاقات السياسية مع دمشق تحت شعار “النأي بالنفس”.
خلال أحداث “الربيع العربي” ظهر السيناتور الأميركي (ريتشارد بليك) في مقابلة تلفزيونية قال فيها: “عبر سرقة النفط السوري يمكننا إيقاف نظام النقل في سوريا، وليس هذا فحسب بل إننا سندفع بالسكان للتجمد شتاء حتى الموت”، ويضيف: “بعد تمكن سوريا البالغ عدد سكانها 23 مليون فقط من هزيمة ثلثي القوة العسكرية العالمية، كنا سنخسرها تماما لذلك وجب علينا التحرك وفرض قانون قيصر”.
كنت قد عشت تفاصيل الحرب على سوريا منذ عام 2011 وراقبت تفاصيلها السياسية والميدانية والإعلامية ودونتها يوما بيوم، ولكن ذلك كله لا يلزم العاقل ليدرك مدى التطابق في كل ماحدث مع تجربة الولايات المتحدة إزاء نيكاراغوا أو العراق أو غيرها، سياسة الحصار والتجويع الشامل التي تسير في ركب الحرب والقصف أو تلعب دور التمهيد لجولة جديدة منها كما في العراق، وأحيانا بمتابعتها وتحقيق ما فشلت به تماما كما في سوريا.
في مطلع شهر كانون الأول الجاري صرح الرئيس الفرنسي (إمانويل ماكرون) أثناء زيارته لواشنطن بأن “الغرب مهدد بالتفتيت نتيجة لقرارات الولايات المتحدة”، إن الأوروبيون أنفسهم اليوم وخلال أشهر من معركة تبعد بضعة آلاف الكيلومترات عن أي دولة في المنظومة الغربية هناك، بدؤوا يتحسسون إجراءات التقنين ويرزحون تحت وطأة تضخم هائل بدأ يأكل بقية الوفرة في مخزونات الدول والأفراد، وها هو شبح الضمور والانكفاء الاقتصادي يخيم على القارة العجوز التي بدأت بدورها تدرك معاني تلك الشيخوخة، ليس على أيادي غزاة أو محتلين قدموها من وراء البحار كما كانت هي تفعل، ولكن على أيدي أبنائها هي الذين يحكمونها أو الذين هاجروا منها إلى أرض العالم الجديد التي سميت أميركا وأبادوا سكانها جميعا.
فهل نتوقع من هؤلاء إدراك ما تعانيه الشعوب التي تسببوا لها بالدمار وتهالك المؤسسات والدول فيها كما في سوريا واليمن وليبيا ولبنان وغيرها، وهي تعاني أضعاف أضعاف ما بدأ الأوروبيون يلمسوه، مضافا له ملايين الضحايا من أبنائها.. إنه سؤال استطرادي لن تتصدى له “محاولة الانقلاب الألمانية الفاشلة” ولا مظاهرات الخضر ومناهضي “العولمة” هنا وهناك على ما أعتقد.
إقرأ أيضاً .. بعقل بارد .. من سوريا إلى أوكرانيا ..
إقرأ أيضاً .. “رأس المال العالمي” المفترس .. يزيد جرجوس
كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب