رأي

ريغار سياسي .. غسان أديب المعلم

خانتني التعابير والمفردات والقلم كثيراً أثناء محاولاتي لضبط النفس وتقديم مادّة الرأي، فبتّ أكتب وأمسح، أقف وأقعد محتقناً مخنوقاً كمن أصابه المسّ، فأيّ رأيّ يصحّ أمام ووسط هذا المستنقع الذي باتت فيه البلاد محتلّةً ومعزولةً بآن، منتصرة بسلطتها ومُريديها ومهزومة بشعبها دونما استثناء، تحوّلت جنانها الخضراء والروابي إلى مجالس عزاء، وسكنت الأغراب ضفافها وأزقّتها، وسرقت ماعليها ومافي باطنها، واستُبيحت سماءها وبحرها وأرضها، وبات حلم شبابها الرحيل عنها طلباً لأدنى متطلّبات الحياة، وهرباً من سلطة الغاب وشريعتها التي حلّت مكان الدستور، وأصبح القانون فيها سيفاً على عامّة الشعب من الفقراء قليلي الحيلة والنفوذ والمحسوبيّات والسند، في حين أصبحت كسرة الخبز وتأمينها بعيداً عن الاستدانة كتحقيق ربحٍ ونجاحٍ في مؤسسةٍ تجاريّة ابتدأت عملها من تحت الصفر.

فالموت لم يعد زائراً ثقيل الظلّ فحسب، بل أصبح مجاوراً وساكناً ومن آل بيت السوريّين، فمن لم تنله رصاصات الاعتداءات، أو حمّى قذائف الإرهاب، أو الغرق في البحر، أصبح يلاقيه في فتحات الصرف الصحّي.

ومن بلدٍ كان يتباهى بإطعام روما، إلى بلدٍ يفتك الجوع بأبناءه ويسحق أجسادهم من القلّة والعوز، البلد الذي ينجح معظم مغتربيه في كافّة المجالات، ويجثم قاطنيه تحت سلطة “جهابذة في الغباء” لا تعرف الألف من الباء، أو حتى ألف باء الإدارة والمسؤولية والإنتماء.

لطالما كانت شوارع المدن تفرح لساعات بعد سيل الاستغاثات والنداءات والاستجداءات لتزفييت أروقتها، ولا تدوم الأفراح إلّا لسويعات حتى تتسابق مؤسسات الدولة كمؤسسة الكهرباء أو المياه أو الهاتف على الحفريات مرّة جديدة، واحدة تلو الأخرى، وبينهما يتم تزفيت الشارع مرّاتٍ ومرّات.

الأمر ليس وليد الأزمة، بل هو نهجٌ متّبع مفروض محكوم بإتقان، لتعزيز ثقافة الفساد والإلقاء بها على عموم المسؤولين من الدرجة الرابعة أو الخامسة، وبعدها ترتفع درجات المسؤولية للدرجة الثالثة وحتّى الثانيّة، وبعدها تلفّ حملة الانتقادات وتعود أدراجها من الخوف والخطوط الحمراء المرسومة لتحميل المسؤولية للشعب الذي انتخب هذه الطغمة “ديمقراطيّاً”، وعليه يكون تعميم المقولة: “كما تكونوا يولّى عليكم”

البلد الذي يهزم عشرات الدول ويطرحها أرضاً ويمزّقها شرّ تمزيق، ولا يجرؤ فيها أحد من المسؤولين على محاسبة محتكرٍ واحدٍ أو حتى شخص غارق لأذنيه بالحرام.

فكلّ مسؤول يتمّ تعيينه وفق متطلبّات المنصب، وبحُكم شروط الولاء والسير وفق التوجيهات دونما الانحراف قيد أنملة عمّا هو موضوع له، وإلّا ستكون حجة الانتحار جاهزة، أو في أسهل الأمور تفتح الملفّات التي أُجبر على الغوص فيها ليكون “كبش فداء”.

البلد الذي يسير إلى الهاوية دون اكتراث، وكأنّما الأمر المحسوم وفق الخيارات الدوليّة من الحكّام الأعلى شأناً بالخراب والدمار أسوةً بالعراق، ولاحقاً يكون دستور “بريمر” هو طوق النجاة بعد الانتهاء من “فجوة الاستقرار” و “الفوضى الخلّاقة” بحيث لن يتسنّى لسوريٍّ أن يهمس بسوريّته وعشقه، وعليه أن يرزح تحت عباءة زعيم الطائفة وإقطاعيّ المنطقة، والاستقواء على جيرانه بالمحافظات الأخرى بإسرائيل وأمريكا وغيرها من الدول المعتدية والمتدخّلة بالشأن السوريّ.

البلد الغارق بالظلام وشحّ المياه رغم ماهو متوفّر من عطايا الطبيعة بالفطرة من الرياح والأمطار والأنهار.

البلد الوحيد في هذه الدنيا الذي تكون الحقيقة فيه واضحةً كالشمس، ولا يجرؤ أحدٌ على قول الحقيقة من الخوف، فالمسؤول يعرف نفسه منبوذاً تماماً من الشعب، والشعب يعرف أنّ المسؤول كاذبٌ بالفطرة، وأنّ طريقة اختياره تتوافق مع قلّة الضمير ولعق أحذية الأعلى شأناً تملّقاً لتسلّق المناصب والتدرّج بها نحو الأعلى.

البلد الوحيد على خارطة هذا الكوكب الذي يعرف فيه الجميع بأنّ أيّ منصب أو عضويّة أو مقام يُمنح بتسعيرة معروفة، بل وأيّ وظيفة مهما كانت ستكون بحسب الوارد من فائدة الرشاوي والاستفادة اللاقانونيّة، ومع ذلك يتغنّى القائمون على إدارة شؤونها بأنّها “دولة مؤسسات”.

والبلد الوحيد في هذا العالم الذي تنطوي فيه كلّ الأحزاب المُصطنعة تحت عباءة الحزب الأكبر، تصفّق له، وتسير معه بذات مسيرات التطوير والتحديث المزعومة، وتنسب إليه نصر الأمّة المزعوم، وتضع كوادرها تحت تصرّفه لو أراد.

هذا البلد المكلوم لم يعُد صالحاً للعيش البشريّ مع هذه الطغم الفاسدة والمنظومة التي لا تعترف بالوطن إلّا وفق مصالحها  وسلب خيراتها بالتشاركيّة مع الأعداء، وتهميش وسحق الكفاءات باستثناء من اختار طريق الولاء والرياء.

هذا البلد وعلى الرغم من اختلاف نسب التوزيع بين غالبيّة الشعب المسحوق وأقليّة المسؤولين والمُستفيدين من فتاتهم ضاق ذرعاً بأحدهما، ولم يعد هناك بدّ للخلاص إلّا بتصريف أحدهما من هذه البلاد في مجرى واحد.

وعليه، فعلى السلطة أن تعود إلى رشدها وتعترف بأخطائها وتُصلح حالها، وتُسهم بتشريعات المحاسبة وتحديث القوانين وفرضها وبناء مؤسسات حقيقيّة لا وهميّة في إطار مشروعٍ وطنيّ جامع لا يستثني أو يُقصي أحد، أو أنّ الخلاص الأخير من الفائض سيكون عبر “الريغار”..

إمّا أن يعوم عليه أفراد الشعب فرادى وجماعات، أو تُدفن فيه رؤوس هذه الطغمة وتعود إلى مكانها الطبيعي.

 

إقرأ أيضاً .. قمة سورية سورية ملونة ..

إقرأ أيضاً .. بحسب المواصفات القياسيّة السوريّة ..

 

 

*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى