رأي

روسيا وضم الشرق الأوكراني .. يزيد جرجوس

عندما اتخذت روسيا قرار ضم الشرق الأوكراني-المقاطعات الشرقية التي تم إخراج القوات الأوكرانية منها من قبل القوات الشعبية الخاصة فيها مدعومة من الجيش الروسي خلال الأشهر الماضية من هذا العام، فإنه من المنطقي أن حواراً سياسياً وقانونياً كبيراً كان قد تم في أروقة صنع القرار هناك، لا أعتقد أنه كان بغرض البحث في اتخاذ الخطوة أو العدول عنها، ولكنه غالباً كان بخصوص الترتيبات التي يجب أن يتم فيها تطبيق ذلك القرار، طالما أنه يبدو وكأنه خيار استراتيجي لم يتم الإعداد له مسبقاً فحسب، ولكنه نضج على مدى عقود من انفصال أوكرانيا عن روسيا (الاتحاد السوفييتي) بعد أن كانتا تشكلان امتداداً اجتماعياً وحضارياً وسياسياً على مدى قرون، وتحديداً عقب الانقلاب الشرس الذي حدث في كييف 2014 وأتى بنظام حكم متشدد في عدائه لروسيا وللكثير من الأوكرانيين ومارس الكثير من القمع والعنصرية بناء على ذلك، مما تسبب بانفضاض الكتلة السكانية في شرقي أوكرانيا عن نظام كييف بشكل كامل.

إقرأ أيضاً .. منبر الأمم المتحدة وحذاء خروتشوف!

إن إلقاء نظرة على العمق القانوني الدولي للمسألة يتخذ أهمية بمكان حيث إن معظم الناس تظن أن موضوع “حق تقرير المصير عبر الاستفتاء” هو حق مقر بالقانون الدولي لأي مقاطعة أو إقليم، لكن ذلك ليس صحيحاً، والصحيح هو أن الاستفتاء لأخذ رأي الشعب في قرار انفصال أو ضم الأقاليم هو حق، ولكنه حق سيادي وطني يجب أن يتم على مستوى الدولة وليس على مستوى الإقليم. أي أن الاستفتاء يجب أن يجرى لأخذ رأي كل الشعب في الدولة المعنية وعلى كامل جغرافيتها لمعرفة مدى موافقته، وتالياً منح الشرعية لقرار الانفصال أو منح الحكم الذاتي مثلا، أو لرفض ذلك، وإلا فإن كل مقاطعة أو منطقة تحتكم على قسم يزيد عن حصتها النسبية من الموارد الاقتصادية في بلدٍ ما، كانت ستذهب للمطالبة بالانفصال للتنعم بخيرات هذا البلد وحرمان بقية أبنائه منها، إن هذا سيشكل دعوة مكرسة لتمزيق دول العالم وتحويلها إلى مقاطعات ثرية وأخرى تفتقر للثروة والموارد، وما سينتج عن ذلك من حروب وصراعات وتفكك للبنية الاجتماعية والحضارية للدول والشعوب.

لقد دعم الغرب تلك النزعات الانفصالية دائماً على مستوى العالم، وأيد وشجع تلك المناطق على ضرب إسفين التقسيم في أرضية الوحدة الوطنية والسياسية لبلدانها، كما حدث في السودان والعراق وتتم المحاولة في سوريا والصين ..الخ. بالوقت نفسه الذي يتم قمع هذه المحاولات في الولايات المتحدة أو اسبانيا مثلا حيث تم سجن القيادات المحلية التي نظمت مثل هذا الاستفتاء في إقليم الباسك. رفض الغرب الالتزام بالقوانين والأعراف الدولية التي كان هو قد صاغ معظمها، يجب أن يكون في رأس المعايير التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند معالجة مثل هذه القضايا في الشرق والجنوب، فإنه يبدو من السذاجة بمكان أن نطبق نحن منفردين المبادئ التي وضعها الآخر وافترضنا جميعا أنها “لتحقيق العدالة والسلم الدوليين”، ثم ليقوم هو بنقضها والخروج عنها بشكل مستمر واستنسابي.

إقرأ أيضاً .. قرابين النظام العالمي الجديد

هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإنه يتوجب علينا أن ننظر بعين أكثر عمقا على المستوى التاريخي لإجراء التقييمات هنا وهناك، وهذا أيضا سيضعنا في مقاربة مع السلوك الغربي تجاه القضايا وإن لم يكن موقفه هنا هو الفيصل فيما سنذهب إليه، فإذا أردنا النظر إلى انفصال هذه المقاطعات في شرقي أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا لاحقاً (وهذا أمر منفصل) فإنه يتوجب علينا قبل ذلك النظر إلى أن أوكرانيا نفسها كانت انفصلت عن غربي روسيا في المقابل قبل سنوات قليلة، وهنا يجب أن لا نرضخ لمعادلة “التعاطي الانتقائي مع التاريخ” حيث يتم استحضار حدث “توراتي” افتراضي ربما حدث قبل آلاف السنوات لسرقة أرض فلسطين، وشطب حدث واقعي حقيقي حدث قبل عقود كسلخ لواء اسكندرون مثلاً.. حيث تجد الماكينة السياسية والإعلامية الغربية تروج لهذا على أنه “تاريخ قديم لا ينبغي العودة إلى نبشه”، بينما ذلك “حق ينبغي تحقيقه مهما طال الزمن”!!

في الواقع ومن أجل فكفكة هذه المفاهيم والترتيبات، ومن أجل وضع فهم عميق لها ينبثق من مفردات الواقع، يجب أن ندرك أن القضية بالعموم عبر التاريخ تعلقت بالقوة، والقوة في هذا العالم استمدت مشروعيتها من القدرة على ممارسة المزيد منها، وليس من مقاربتها لقيم الحق والعدالة، فإذا كانت قضايانا ذاتها محقة، فما هو الأمر الذي سيدفعنا إلى فخ الاستسلام التراجعي لقوى الانتقائية الغربية!! خاصة عندما نمتلك القوة اللازمة لصون تلك الحقوق. هذا أولاً ..

أما ثانياً .. فإنه  إذا كانت كل دول العالم تشكلت وتوحدت بقوة السلاح، بما فيها أميركا وبريطانيا .. فلماذا عندما يأتي الدور علينا نريد أن نقف ونكبل أنفسنا بالاعتبارات الدولية التي أساساً وضعها الآخر وأثبت بالممارسة أنه لم يضعها لضبط النزعات التعسفية على مستوى العالم، ولكن للجم التوجهات الوحدوية والنهضوية في الشرق والجنوب.

إقرأ أيضاً .. هذا العالم يحتاج لمجنونٍ واحد

إن انضمام هذه المناطق لروسيا له أهمية إنسانية بالغة لجهة إنقاذ سكانها من الماكينة العنصرية لنظام كييف، كما وأنه يمتلك فوائد إقتصادية كبيرة فهي مناطق الثروات والصناعة، وبالمناسبة هي الصناعة التي أنشاها الاتحاد السوفييتي، ويبدو أيضاً من الخطأ ترك ذلك في قبضة النازيين!! وهم أساساً لم يكونوا قادرين على الإفادة منه لأن السكان رفضوا انقلاب 2014 وأصبحت المنطقة متوترة، وكان لا بد من إعادتها للأمان والاستقرار.

في هذه السياقات يبدو الموقف الأكثر عقلانية تجاه المصالح المستقبلية لدول الشرق والجنوب ولشكل العالم متعدد الأقطاب، هو أنه إذا كانت روسيا قادرة على فعل ذلك فلتفعله، ولترفض البقاء في موقع امتصاص الصدمات وترك الدول الغربية تمارس القوة منفردة وحيث ترغب، لأن ذلك سيعني الهزيمة الاستراتيجية لروسيا ولكل الدول الصاعدة.

 

كاتب وباحث – سوريا
المقال يعبر عن رأي الكاتب

 

صفحتنا على فيس بوك  قناة التيليغرام  تويتر twitter

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى